12- الصيامُ مكفرٌ للسيئات
قَالَ الله تَعَالَى: [إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ] {التغابن:15}.
وقَالَ تَعَالَى: [وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] {الأنبياء:35} .
الفِتْنَة: هِيَ الابْتِلاءُ والامْتِحَانُ والاخْتِبَارُ.
قَالَ ابنُ عباسٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُما: «نَبتَليكُم بالشِّدَّةِ والرَّخَاءِ، والصِّحَّةِ والسَّقَم، والغِنَى والفَقْرِ، والحَلالِ والحَرَام، والطَّاعَةِ والمَعصِيَةِ، والهُدَى والضَّلال»( ).
وعَنْ حُذَيفَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ : «مَنْ يَحفَظُ حَدِيثاً عَنِ النَّبيِّ ﷺ في الفِتنَة؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: أَنا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: فِتنَةُ الرَّجُلِ في أَهْلِهِ ومَالِهِ وجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ والصِّيامُ والصَّدَقَةُ» رواه الشيخان( ).
وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبيِّ ﷺ يَرْويِهِ عَنْ رَبِّكُمْ قَالَ: «لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ، والصَّوْمُ لي وَأَنَا أَجْزِي به...» رواه البخاري ( ).
وفي رِوايةٍ لأَحمد: «كُلُّ العَمَلِ كَفَّارَةٌ والصَّوْمُ لي وَأَنَا أَجْزِي به...» ( ).
وفي رِوايةٍ: «كُلُّ العَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصَّوْمَ لي وَأَنَا أَجْزِي به...» ( ).
وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ كَانَ يَقُولُ: «الصَّلَواتُ الخَمسُ، والجُمعَةُ إلى الجُمُعةِ، ورَمَضَانُ إلى رَمَضَانَ، مُكَفِّراتٌ مَا بَينَهنَّ إذا اجْتُنِبَتْ الكَبَائرُ» رواه مسلم( ).
وعَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْريِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُولُ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وعَرَفَ حُدُودَهُ وتَحفَّظَ مما كَانَ يَنبَغِي لَه أَنْ يَتَحَفَّظَ فيهِ كَفَّرَ ما قَبْلَه» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبانَ( ).
الفوائد والأحكام:
الأول: أنَّ الإنسَانَ قَدْ يُفتَنُ بالخَيرِ، وقَدْ يُفْتَنُ بالشَّرِّ، ومِنَ الفِتْنَةِ بالخَيرِ: بَسطُ الأَمْوالِ، وتَوَارُدُ النِّعَمِ على الإِنسَانِ، ومِنَ الفِتنَة بالشَّر: ما يُصيبُ الإنْسَانَ مِنْ هُمُومٍ وأَوصَابٍ وأَمْرَاض.
الثاني: أنَّ الأَوْلادَ والأَموَالَ فِتنةٌ للرَّجُلِ، وَوَجْهُ كَونِهِم فِتْنَةً أنَّ الإنْسَانَ قد يُضَيِّعُ حُقُوقَ الله تَعَالَى مِن أَجلِهِم؛ مَحَبَّةً لهَم، وشُحَّاً عَلَيهم، فَيَكُونُ ذَلكَ سَبَباً لِعِقَابِهِ في الآخِرَةِ، ومن فِتْنَتِهِ أَيضاً بِهِم: أنَّ لَهم عليهِ حُقُوقاً أَوْجَبَها الشَّارِعُ الحَكِيمُ، كَتَعْلِيمِهِم وتَربِيَتِهم والنَّفَقَةِ عَلَيهِم، وغيرِ ذَلكَ، فَيُضَيِّعُ هذه الحُقُوقَ أَو يُقَصِّرَ في أدَائِهَا فَيَأثَمُ بذَلكَ( ).
الثالث: المَعَاصِي والذُّنُوبُ فِتنَةٌ، ومَن فُتِنَ بِشَيءٍ مِنهَا كامْرَأَةٍ لا تَحِلُّ له، أو مَالٍ حَرامٍ فَهُو مَفتُون، وقَدْ يَقَعُ في ذَلكَ بَعضُ الصَّالِحين( ) كما قَالَ الله تَعَالَى: [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ] {الأعراف:201}. وقَالَ تَعَالَى: [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] {آل عمران:135}.
الرابع: يَنبغِي لمِنَ فُتِنَ بِمَعصِيةٍ من المَعَاصِي مُصِرَّاً عَلَيهَا أَنْ يُكثِرَ مِنَ الأَعمَالِ الصَّالحَة؛ لأَنَّ الأَعمَالَ الصَّالحَةَ تُكَفِّرُ السَّيئَات، قَالَ الله تَعَالَى: [إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ] {هود:114} ولَعَلَّ إِكثَارَهُ مِنَ الطَّاعَاتِ يكُونُ سَبَباً في عِتْقِهِ مِنَ أَسْرِ تِلكَ المَعصِيةِ، فَيُوَفِّقُهُ الله تَعَالَى بِسَبَبِ طَاعَتِهِ لِتَوبَةٍ نَصُوح.
الخامس: دَلَّتْ هَذهِ الأَحَادِيثُ على أَنَّ الصِّيَامَ كَفَّارَةٌ، ونَفَى في حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ أَنْ يَكُونَ الصِّيَامُ كَفَّارَةً، والمرَادُ: أَنَّ الأَعْمَالَ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ كَفَّارَةٌ وزِيَادَةُ ثَوَابٍ عَلى الكَفَّارَةِ، ويَكُونُ المرَادُ بِالصِّيَامِ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ مَا وَقَعَ خَالِصاً سَالماً مِنَ الرِّيَاءِ والشَّوَائِب( ).
السادس: قَالَ النوويُ رَحِمهُ اللهُ تَعَالَى: «قَدْ يُقَال: إذَا كَفَّرَ الوُضُوءُ الذُّنُوبَ فَمَاذا تُكفِّر الصَّلاة؟ وإِذا كَفَّرَتِ الصَّلاةُ فَمَاذا تُكفِّرُ الصَّلاةُ في الجَمَاعات، ورَمَضَانُ وصَومُ يَومِ عَرَفَةَ ويَومِ عَاشُورَاء، ومُوَافَقَةُ تَأْمِينِ المَلائِكَة؟فقد وَرَدَ في كُلِّ ذَلكَ أَنَّهُ يُكفِّرُ. والجَوابُ ما أَجَابَ به العُلماءُ: أنَّ كلَّ واحِدٍ مِنَ المذْكُورَاتِ صَالحٌ للتَّكْفِير، فَإِنْ وَجَدَ ما يُكَفِّرُهُ مِنَ الصَّغَائِرِ كَفَّرَه، وإنْ لمْ يُصَادِفْ لا صَغِيرةً ولا كَبِيرَةً كُتِبَ بهِ حَسَناتٌ، ورُفِعَت به دَرَجَات، وإنْ صَادَفَ كَبِيرَةً أو كَبَائِرَ رَجَونَا أنْ يُخَفِّفْ مِنَ الكبَائِر»( ).
السابع: أَنَّ حُقوقَ العِبادِ لا يُعفَى عَنهَا بهذِهِ المُكَفِّرَاتِ، فَلا تُكَفِّرُها الأَعْمَالُ الصَّالِحةُ سَواءً كَانَت هَذه الحُقُوقُ مِنَ الصَّغَائِرِ أَمْ كَانتْ مِنَ الكَبَاِئر؛ بل لا بُدَّ من إِبرَاءِ الذِّمَّةِ مِنهَا، أَو التَّحَلُّلِ من أَصْحَابِها( ).
الثامن: فَضِيلَةُ الصِّيامِ وأَنَّهُ سَببٌ لِتَكفِيرِ الذُّنُوب.
التاسع: أَنَّ هَذا الفَضْلَ مِنَ التَّكْفِيرِ وغيرِهِ يَحوزُهُ مَنْ حَفِظَ صِيامَهُ مما يُفْسِدُهُ، بِدَليلِ قَوْلهِ في حَدِيثِ أَبي سَعِيدٍ: «وَعَرَفَ حُدُودَهُ وتَحَفَّظَ مما كَانَ يَنبَغِي له أنْ يَتَحَفَّظ فِيه».
وعَليهِ فَيَجِبُ على المُسلِمِ أَنْ يَحفَظَ لَيلَهُ ونَهَارَهُ في رَمَضَانَ مِنْ أيِّ قَولٍ مُحرَّمٍ كالغِيبَةِ والنَّميمَةِ، والنَّظَرِ إلى ما حرَّمَ الله عزَّ وجَلَّ مما يُعرَضُ في وَسَائِلِ الإعْلامِِ مِنْ مُسَلسَلاتٍ وبَرامِجَ تَرفِيهيَّةٍ مُحرَّمَةٍ وغَيرِها؛ مما يَزدَادُ في رَمَضَانَ أَكْثرَ مِنْ غَيرِهِ، نَسْأَلُ الله تَعَالى لَنَا وللمُسْلِمينَ الهِدَايَةَ والرَشَاد.