على مدى ملايين الأعوام ومئات الحقب الزمانية، منذ خلق الله تعالى آدم -عليه السلام- وأمر إبليس بالسجود له فأبى واستكبر وكان من الكافرين، منذ ذلك الحين والشيطان وبنوه يكتسبون يومًا فيومًا خبرة طويلة في التعامل مع بني البشر وإغوائهم وإفساد دينهم، حيث طوّر إبليس -عليه لعائن الله- من أساليبه في إفساد حياة الناس وآخرتهم، وفي تزيين المعاصي والأخلاق الدنيئة وتقبيح الصالحات والقيم الرفيعة في عيون متبعيه، فلم تعد تلك الأساليب الساذجة التي كان يستخدمها قديمًا هي نفسها التي يستخدمها مع أبناء هذا الجيل المعاصر أو أبناء الأجيال القادمة، وإنما تتطور بتطور الحياة نفسها وتطور أساليبها وأدواتها، فتجييش إبليس للجيوش من الشعراء والأدباء والفساق والماجنين قديمًا صار يقابله في أيامنا تلك أدوات جديدة من إعلام مرئي وفضائيات وشبكات اتصال هاتفية وشبكات إنترنت وفنانين وممثلين ومفكرين مخترقين يعبثون بأخلاقيات الأمة ومبادئها كما يعبث الطفل الصغير بلعبته.
وإن أكبر التحديات التي يواجهها الشيطان في هذه الدنيا هم العُبَّاد الصالحون، كيف يغويهم ويفسدهم ويكتشف المداخل التي عن طريقها يصيبهم في مقتل، أو على الأقل يزيحهم عن طريقهم الذي ارتضاه لهم ربهم عز وجل، فالفسقة والكفار والماجنون من السهولة بمكان الدخول إليهم وزيادة غيهم وفسقهم ومجونهم وكفرهم، أما الصالحون فإن لهم من المناعة الإيمانية ما يمكنهم من مجابهة عدوهم الأول ومواجهته والتصدي لمخططاته، لذا فإن الشيطان يبذل مجهودًا إضافيًا مع الصالحين لزحزحتهم عن طريقهم وزعزعة إيمانهم المترسخ في قلوبهم، وإذا ما قارنا بين مداخل الشيطان على الفاسقين والكافرين وبين مداخله على الصالحين لوجدنا بونًا شاسعًا وتباينًا كبيرًا بين الحالين، حيث يعالج الشيطان فئتين مختلفتين من البشر، فئة مؤمنة وأخرى فاجرة أو كافرة، فهو يراعي اختلاف الفئة المستهدفة بالإضلال، فيغير من أسلوبه في كلتا الحالتين، فالفئة الأولى يسهل قيادها وإغواؤها بسبب استعدادها لذلك بتلبسها المستمر بالمعصية والفجور، على عكس الفئة الأخرى التي قليلاً ما تخطئ أو تزل أقدامها، لذا فإنها تحتاج إلى أسلوب ممعن في الخبث والمكر والدهاء لإسقاطها في أوحال المعاصي في الوقت الذي تشعر فيه بأنها بذلك تتقرب إلى الله بمزيد من أعمال الخير!!
وثمة أبواب كثيرة يمكن للشيطان أن يدخل منها على الصالحين، فيوهمهم بالقرب من الله، وما يزيدهم عنه إلا بعدًا، ومن هذه الأبواب: الاهتمام بالمفضول عن الفاضل، والإغراق في الجزئيات والتفاصيل وترك الاهتمام بالكليات، والإفراط في العبادات بالزيادة غير المشروعة والابتداع فيها، فيوهمه أن ذلك من إحسانها وإتمامها، وغير ذلك كثير...
وعلى العبد الفطن أن يتيقظ دومًا وأن يعي خطورة الأمر ويسرع ويبادر بغلق الأبواب التي يمكن للشيطان أن يلج إليه منها، وذلك بأن يعلم عن طبيعة الشيطان ما حكاه الله تعالى عنه من عداوته الأبدية لابن آدم، وأن وساوسه المستمرة لا يمكن أن يأتي من ورائها خير، بل هي الشر المحقق حتى وإن تغلفت بالخير وتزينت وتجملت به، فعليه أن يخالفه على طول الخط، حتى وإن أمره بخير فعليه أن يتفكر في هذا الخير الذي يأمره به، فلربما كان خيرًا صغيرًا يعطله عن خير أكبر، وربما كان خيرًا مفضولاً يحجزه عن خير فاضل، وربما كان خيرًا لازمًَا يعطله ويؤخره عن خير متعدٍّ لأهله وجيرانه وإخوانه... وهكذا.
وإذا لم يكن العبد على بصيرة من ضرورة التجائه الدائم إلى الله تعالى واستنصاره على شيطانه، فإنه بذلك يضع نفسه فريسة سهلة على مائدة الشياطين، فكلما زادت ثقة العبد بنفسه بشكل زائد عن اللازم بسبب ما هو فيه من تقوى وعمل صالح، وأوكل أمر تقواه إلى نفسه لا إلى الله، وكان شعاره في ذلك: (إنما أوتيته على علم عندي)، كان ذلك مدعاة لاستغنائه عن الله، وانفراد الشيطان به وافتراسه بلا رحمة، لأن الله ساعتها يكله إلى نفسه وإلى قدراته وإلى تقواه الزائفة، وحينها يعلم العبد مدى خطئه وتقصيره في جنب الله تعالى.
وفي مختاراتنا لهذا الأسبوع جمعنا لخطبائنا الكرام مجموعة من الخطب المنتقاة، نحاول من خلالها رصد بعض مداخل الشيطان على الصالحين، مؤكدين على عداوته الأبدية لبني آدم ومبينين شيئًا من مكايده لبني آدم بشكل عام، والأتقياء من عباد الله تعالى بصورة خاصة، بالإضافة إلى أساليب التغلب على وسوساته وتزيينه للشر، والعلاجات المتعددة التي عن طريقها يسد بها العباد مداخل الشيطان عليهم، سائلين الله تعالى أن يعيذنا من الشيطان الرجيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.