. وجوب حب الخير للمؤني. 2. حقيقة الحسد. 3. الحسد خلق إبليس. 4. حسد اليهود لأمة محمد . 5. معالجة الحسد. 6. الحسد بريد الظلم. 7. اغتمام الحاسد واهتمامه. 8. ثناء الله تعالى في كتابه على الأنصار لسلامة صدورهم.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن من كمال إيمان العبد أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكرهه لنفسه، فعنه قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه))[1].
أيها المسلم، إذن فأنت تحب لأخيك الإيمان، تحب له الاستقامة على الأخلاق والفضائل، وتكره له الفسوق والعصيان، والانحراف عن فضائل الأعمال، تحب له الصحة والعافية، تحب له الخير والرزق، تحب له الولد، تحب له راحة النفس وقرة العين، لماذا؟ لأنه أخوك المؤمن، فكل أمرٍ تحبه لنفسك وترضاه لنفسك فأنت تحبه وترتضيه لأخيك، وكل أمرٍ تكرهه لنفسك ولا ترضاه لها فأنت تكرهه لأخيك، ولا ترضى ذلك الأمر له، ذلك كمال الإيمان لمن وفقه الله وأعانه على نفسه
إذاً أيها المسلم فبضد هذا الخلق الكريم، بضده الخلق الذميم: الحسد، ذلكم الخلق المذموم الذي ذمه الله في كتابه، وحذر منه رسوله محمد ، وحقيقة هذا الحسد أن تتمنى زوال النعمة عن غيرك، تتمنى زوال النعمة عن أخيك سواءً أردتها لنفسك أو أردت زوال نعم الله عنه وإن لم تنل منها نصيباً، فمن يتمنى زوال النعم عن الآخرين؛ يتمنى لهم المرض بعد الصحة، والفقر بعد الغنى، ويتمنى الهم بعد الراحة، ويتمنى لهم المعصية، ويتمنى لهم الأخطاء، ويتمنى لهم النقص، ويفرح بكلّ نقصٍ عليهم، وينبسط بكلّ همٍّ يلحقهم، ويفرح بكل مصيبة تنزل بهم، تلك والعياذ بالله من الأخلاق المذمومة، هذا هو الحسد الذي ذمه الله في كتابه ، وذمه رسوله محمد ، فإن هذا خلق أعداء الله اليهود، وقبلهم إبليس، حسد آدم لما خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له فاعترض قائلاً: أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [الأعراف:12].
فالحسد والكبر منعه من السجود لآدم، فسبّب له أن أقصاه الله من رحمته، واليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة حسدوا محمداً ، حسدوا محمداً والعرب على ما وهبهم الله من الخير الكثير، حسدوا هذا النبي الكريم الذي يعرفون أوصافه، يعرفون صفاته كما يعرفون أنباءهم لَّذِينَ آتَيْنَهُمُ لْكِتَبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [البقرة:146]، فجحدوا رسالته وأنكروها، وقالوا: ليس هذا النبي الذي وعِد به، أنكروا ذلك جحوداً وحسداً، قال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ لْكِتَبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ لْحَقُّ [البقرة:109]، فهم يتمنون أن يردوا المسلمين عن دينهم حسداً لهم على هذه النعمة، قال تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ لنَّاسَ عَلَى مَا ءاتَهُمُ للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النساء:54]، فهم حسدوا النبي، وحسدوا هذه الأمة على هذا الدين القيم الذي هدانا الله به، وأكمله وأتمه ورضيه لنا ديناً، يقول يهودي لأمير المؤمنين عمر : آية في كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت لصيّرنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأي آية؟ قال: لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ لإسْلاَمَ دِيناً [المائدة:2]، فقال عمر : (إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على النبي يوم عرفة وهو واقف بها )[2].إنهم يحسدوننا على الجمعة التي هدانا الله لها، وأضل عنها من قبلنا من الأمم، يحسدوننا على قولنا وراء الإمام: آمين، يحسدوننا على كل خير، يحسدون هذه الأمة على كل تآلف واجتماع، قال تعالى محذراً عباده من كيدهم، وذلك أن اليهود لما رأوا الأوس والخزرج، وكيف ألف الله بين قلوبهم وجمع كلمتهم، أرادوا أن ينقضوا ذلك الاتفاق وتلك الوحدة العظيمة، فأوحوا إلى بعض شياطينهم أن يحضروا مجالس الأوس والخزرج، ويذكروهم بحرب بعاث، وما جرى فيها من القتل، وما جرى فيها من سفك الدماء، عسى تلك الفتن تفرق القلوب، فجاء أحد شياطينهم إلى مجالس الأنصار: الأوس والخزرج، وما زال يتلو الأشعار التي قيلت في تلك المعارك، وما زال يذكر تلك المعارك وما فيها من قتل، حتى كاد أن يتصدع بنيان الأوس والخزرج، فقالوا: السلاح السلاح، فبلغ النبي خبرهم وجاءهم وقال: ((يا معشر المسلمين، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!!)) وما زال يسكنهم حتى رجعوا إلى أنفسهم، وعلموا أن تلك دسائس اليهود، فأنزل الله: يأَيُّهَا لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ لَّذِينَ أُوتُواْ لْكِتَبَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَنِكُمْ كَفِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءايَتُ للَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِلَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرطٍ مّسْتَقِيمٍ يأَيُّهَا لَّذِينَ ءامَنُواْ تَّقُواْ للَّه حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَذْكُرُواْ نِعْمَةَ للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ لنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذلِكَ يُبَيّنُ للَّهُ لَكُمْ ءايَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:100-103] [3].
أيها المسلم، فاليهود أعداء الله يحسدون هذه الأمة على كل خير وهبهم ربهم، يحسدونهم على نعمة الإسلام، وعلى هذا الدين القيم الذي أكمله الله وارتضاه، وهم لا يرضون عنا حتى نبتعد عن ديننا والعياذ بالله وَلَن تَرْضَى عَنكَ لْيَهُودُ وَلاَ لنَّصَرَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
أيها المسلم، إذاً فالحسد ليس من أخلاق أهل الإيمان، ولكنه من أخلاق اليهود، فعلى المسلم أن يترفع عنه، إنه مغروس في النفوس، ولكن المسلم يدافعه بالرضا عن الله، والاعتقاد الجازم أن الله حكيم عليم في عطائه ومنعه، وأنه حكيم عليم في قسم أرزاق عباده، فجعل منهم الغني والفقير ومن دون ذلك، والعالم والجاهل ومن دون ذلك، والتابع والمتبوع إلى غير ذلك من قسمته العادلة بين خلقه لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء:23].
أخي المسلم، إن عدو الله إبليس قد يوغر صدرك، ويلقي عليك الشبهات، ويزين لك كراهية النعمة لأخيك المسلم، فاحذر مكائد عدو الله، وكلما رأيت نعمة من الله على عبدٍ من عبيده فاسأل الله من فضله وكرمه، اسأل الله من فضله وكرمه، وإياك أن تحسد أخاك المسلم على نعمة تفضل الله بها عليه، إياك أن تحسده، وإياك أن تكره وصول الخير إليه، لا بل أحب له الخير كما تحب لنفسك، ونبينا يقول لنا: ((لا تحاسدوا)) [4]، أي لا يحسد بعضكم بعضاً؛ فإن الحسد بغي، وظلم، وعدوان، والحاسد لم يرض بقسم الله، هو متهم الله في قسمه، وربك حكيم عليم.
وأخبرنا عن الآثار السيئة للحسد فقال: ((إياكم والحسد؛ فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب))[5].
أيها المسلم، كلما نظرت إلى نعم من نعم الله على عبدٍ من عبيد الله، فاعلم أن الله الحكيم العليم هو الذي أعطاه، وهو الذي تفضل عليه، وهو الذي منّ عليه، وهو الذي قسم ذلك له، فاعرف عظمة الله، والجأ إلى الله، واسأله من فضله وكرمه، ولا تحسد أخاك، ولا تقل: لماذا فُضل هذا؟ لماذا كان هذا غنياً؟ هو لا يستحق الغنى، لا يستحق الخير، الفقر أولى له من الغنى؟!! هذا قولك، لكن هل أنت مصيب؟ أليس الله بأحكم الحاكمين؟!! هو الذي أعطاه الغنى؛ لأنه يعلم الحكمة في ذلك، وهو الذي أفقرك؛ لأنه يعلم الحكمة في ذلك؛ وهو الذي سود فلاناً ورأّسه، وهو الذي جعلك مرؤوساً وهو أعلم بذلك، وهو المتصرف في خلقه كيف يشاء بحكمته ورحمته وعدله جل رباً وتقدس إلهً لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء:23].
أيها المسلم، إن الحسد يدعوك إلى العداوة، يدعوك إلى البغي، يدعوك إلى الظلم، إن الحاسد لا يزال في حسده حتى يبغي على هذا المسلم، بأن يفتري عليه أقوالاً باطلة، أو يلفق به تهماً سيئة، أو يسعى في إلحاق الأذى والضر به، إنه يظلمه فيسبه وينتهك عرضه، ويفرح بمن يشينه ويقول فيه ما ليس فيه، إنه يدعو إلى الظلم والبغي والعدوان، فاتق الله أيها المسلم، ولا تَنقَد لوساوس الشيطان، ارضَ عن الله، واعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وقد أمرنا الله أن نستعيذ به من الحسد قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ لْفَلَقِ مِن شَرّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرّ النَّفَّثَاتِ فِى لْعُقَدِ وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [سورة الفلق]، نستعيذ بالله من شر الحاسد وحسده؛ فإن الحاسد مغموم مهموم، يعيش بين الناس بقلبٍ محترق، ونفسٍ مملوءة هماً وحزناً، كلما أدار نظره فرأى نعم الله على عباده ازداد هماً وغماً، لا يفرحه إلا أن يقال: إن فلاناً سقط، أو إن فلاناً مرض، أو إن فلاناً عزل، أو إن فلاناً أصابه ما أصابه، لا يفرح إلا بذلك، لكن إذا بلغته الأخبار السارة عن صلاح هذا، واستقامة هذا، وحسن حال هذا، ضاق هماً، وامتلأ قلبه غيظاً على نعم الله على عباده.
أيها الحاسد، إنك أُصبت بمصيبةٍ لا تؤجر عليها، وامتلأ قلبك هماً وغماً وذماً لك، وأسخطت ربك، وظلمت أخاك، فاتق الله في نفسك، وارض بقسم الله، فإن من رضي بقسم الله اطمأنت نفسه، وقرت عينه، وفي الحديث: ((قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه)) [6].
أيها المسلم، راحة البال أن ترضى بقسم الله، وأن تعلم كمال حكمة الله، فهو الذي يعطي ويمنع، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، إنه رب العالمين، يعطي لحكمة، ويمنع لحكمة، والحاسد لا يؤمن بهذا، الحاسد يريد أن يحكّم عقله ورأيه، فيظن بالله ظن السوء، أن الله ليس عادلاً، هذه – والعياذ بالله – غاية الحاسد ونهايته، فليتق المسلم ربه، وكلما عرض الحسد له تدارك ذلك بأن يقول: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويصرف نفسه عن هذه الأمور، فيبتعد عن هذه الجريمة النكراء بكل ما يستطي
أسأل الله لي ولكم قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم
[1] أخرجه البخاري في الإيمان [13] ، ومسلم في الإيمان [45] من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان [45] ، ومسلم في التفسير [3017] عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال ، ثم ذكر القصة.
[3] أخرجه ابن جرير في تفسيره (7/55) من طريق محمد بن إسحاق قال : حدثني الثقة ، عن زيد بن أسلم مرسلاً.
[4] جزء حديث أخرجه البخاري في الأدب [6064 ، 6065] ، ومسلم في البر والصلة [2563 ، 2559] من حديث أبي هريرة ومن حديث أنس رضي الله عنهما.
[5] أخرجه أبو داود في الأدب [4903] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال البخاري في التاريخ الكبير (1/272) : "لا يصح" ، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة [1902].
[6] أخرجه مسلم في الزكاة [1054] عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
الخطبة الثانية
الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
وصف الله عباده المؤمنين بقوله: وَلَّذِينَ تَبَوَّءوا لدَّارَ وَلإيمَنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ لْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
هذا وصف للأنصار بقوله: وَلَّذِينَ تَبَوَّءوا لدَّارَ وَلإيمَنَ مِن قَبْلِهِمْ [الحشر:9]، أي من قبل المهاجرين تبوءُوا المدينة مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، هكذا أولئك، لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي أحدٌ من الخير، بل ما أوتي أحد من الخير يفرحون له بالخير، ويسرهم ذلك، ولا يحزنهم، ولا يغمهم، بل يفرحون للمسلين، كما يفرحون لأنفسهم، أولئك الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كنا في المسجد عند رسول الله فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((يدخل عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة))، قال: فدخل رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد علق نعليه بيده، فسلم على النبي وجلس، قال: ولما كان اليوم الثاني قال: ((يدخل من هذا الباب عليكم رجل من أهل الجنة))، قال: فدخل ذلك الرجل الذي دخل بالأمس، تنطف لحيته من وضوئه، مُعلقاً نعليه في يده فجلس، ثم في اليوم الثالث، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: فقلت في نفسي: والله لأختبرن عمل ذلك الإنسان، فعسى أن أوفّق لعمل مثل عمله، فأنال هذا الفضل العظيم أن النبي أخبرنا أنه من أهل الجنة في أيامٍ ثلاثة، فأتى إليه عبد الله بن عمرو فقال: يا عم، إني لاحيت أبي – أي خاصمت أبي – فأردت أن أبيت ثلاث ليال عندك، آليت على نفسي أن لا أبيت عنده، فإن أذنت لي أن أبيت عندك تلك اليالي فافعل، قال: لا بأس، قال عبد الله: فبت عنده ثلاث ليال، والله ما رأيت كثير صلاةٍ ولا قراءة، ولكنه إذا انقلب على فراشه من جنب إلى جنب ذكر الله، فإذا أذن الصبح قام فصلى، فلما مضت الأيام الثلاثة قلت: يا عم، والله ما بيني وبين أبي من خصومة، ولكن رسول الله ذكرك في أيامٍ ثلاثة أنك من أهل الجنة، فما رأيت مزيد عمل!! قال: هو يا ابن أخي ما رأيت، قال: فلما انصرفت دعاني فقال: غير أني أبيت ليس في قلبي غش على مسلم ولا أحسد أحداً من المسلمين على خير ساقه الله إليه، قال له عبد الله بن عمرو: تلك التي بلغت بك ما بلغت، وتلك التي نعجز عنها[1].
انظر كيف سلامة الصدر، وخلوه من الحسد، كيف بلغ بصاحبه تلكم المنزلة الرفيعة، فقليل من الأعمال الخالصة يجعلها الله سبباً لنيل صاحبها الخير والفضل ذَلِكَ فَضْلُ للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء [الجمعة:4]، هذا الفضل العظيم لمن وفقه الله فسلم صدره، وصح إيمانه، ورضي بما قسم الله له، ولم يحسد أحداً من المسلمين، على خير ساقه الله إليه، لا يحاول التنقص منه، ولا الحط من قدره، ولا تشويه سمعته، ولا إلحاق الأذى به بأقواله وأعماله، بل هو متقٍ لله، راضٍ بقسم الله، عالم أن الله أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
واعلموا رحمكم الله أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا – رحمكم الله – على سيد الأولين والآخرين...
[1] أخرجه عبد الرزاق [20559] عن معمر، عن الزهري، عن أنس، وعنه الإمام أحمد [12697]، وهذا سند صحيح على شرط الشيخين.