قيامه صلى الله عليه وسلم الليل في رمضان. ولعل أبرز ما تميز به قيامه صلى الله عليه وسلم ما يلي:
1- أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في قيامه على إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، كما يدل لذلك حديث عائشة قالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة"، وحديثها الآخر قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين" [14].
2- أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقوم الليل كله، بل كان يخلطه بقراءة قرآن وغيره، يدل لذلك حديث عائشة قالت: "ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى أصبح، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان"[15]، وحديث ابن عباس، وفيه: "وكان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه صلى الله عليه وسلم القرآن" [16].
3- أن غالب قيامه صلى الله عليه وسلم كان منفرداً؛ خشية أن يُفرض القيام على أمته. لقد كان شديد الخوف أن يفرض عليها القيام فيقصِّر فيه أناس فيأثموا.. هذا مع شدة حرص صحابته الكرام على أن يقوم بهم غالب الليل أو كله، لكنه ينظر لمن بعدهم، وكأنه يرى ضعفنا وشدة عجزنا. وفي هذا درس بليغ للدعاة أن يجمعوا مع الاجتهاد وبذل غاية الوسع في هداية الأمة ودعوتها.. خوفاً شديداً من وقوعها في الإثم رحمة بها.
4- إطالته صلى الله عليه وسلم لصلاة القيام؛ فقد سئلت عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله في رمضان؟ فقالت: «ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة: يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، فقلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة! إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي» [17].
وبذا يتجلى لنا خطأ كثير من الحريصين على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، والذين يحرصون على التأسي به في العدد دون الكيفية: من إطالة وخشوع وطمأنينة، نسأل الله تعالى التوفيق للصواب.
* مدارسته صلى الله عليه وسلم القرآن مع جبريل عليه السلام فعن ابن عباس: "كان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه صلى الله عليه وسلم القرآن"[18]. وفي رواية: "فيدارسه" [19] وهذه صيغة فاعلة تفيد وقوع الشيء من الجانبين[20].
فإذا كان هذا الحرص وتلك العناية بمدارسة القرآن ممن جمع الله له القرآن في صدره، وتولى تفهيمه إياه، فما أحوجنا إلى مثل هذه المدارسة لننعم بهداية القرآن الكريم؟
* تواضعه وزهده صلى الله عليه وسلم: وشواهده كثيرة، منها: سيلان ماء المطر من سقف المسجد على مصلاه صلى الله عليه وسلم وسجوده في ماء وطين[21]، وصلاته صلى الله عليه وسلم قيام الليل على حصير [22]، واعتكافه صلى الله عليه وسلم في قبة تركية على سدتها حصير [23]، واعتكافه صلى الله عليه وسلم في بيت من سعف [24]، وتواضع فطوره وسحوره صلى الله عليه وسلم، كما تقدم، ومنها: قلة طعامه صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن أنيس: "فأُتي -أي: النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان- بعشائه فرآني أكفُّ عنه من قلِّته" [25].
ومن هذا يتبين أن الأقرب إلى هديه صلى الله عليه وسلم هو التواضع والزهد وهو: ترك ما لا ينفع في الآخرة، والتقلل من نعيم الدنيا، والحرص على الاخشيشان والبذاذة والتبسط وترك التكلف الذي يكون دافعه تواضع القلب لله تعالى وإخباته له، وإقباله عليه، وطمأنينته ورضاه به، وتعلقه بنعيم الآخرة الباقي، وهذه حقيقة الزهد، لا أن نترك ذلك ظاهراً والقلوب شغوفة متطلعة إليه مشغولة به، فتلك عبودية الدنيا كعبودية الدرهم والدينار.
* إكثاره صلى الله عليه وسلم من الإحسان والبر والصدقة. قال ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة" [26]. وعلة زيادة جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان: "أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود" [27]. إنه أثر القرآن... وثمرة الزهد، وكفى!!
* جهاده صلى الله عليه وسلم في رمضان، وجعله منه شهر بلاء وبذل وفداء، ويتجلى ذلك بأمرين:
الأول: غزوُه صلى الله عليه وسلم للمشركين في رمضان، وكون أعظم انتصاراته صلى الله عليه وسلم وأجلّها والمعارك الفاصلة التي تمت في حياته كانت فيه. قال أبو سعيد الخدري: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان" [28]، وقال عمر بن الخطاب قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان غزوتين يوم بدر والفتح، فأفطرنا فيهما" [29].
الثاني: السرايا والبعوث العديدة التي كانت في رمضان، وهي كثيرة [30].
وجهاده صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع اجتهادهم في العبادات الأخرى دلالة على أثر الصيام الإيجابي فيما يورثه لصاحبه من قوة في النفس تورث قوة في الجسد.
على أن ما يحتاجه الجسم من الغذاء أقل مما نتصوره اليوم، وإنما تخور قوى الصائمين المترفين الذين ألفوا الملذات فجهدت نفوسهم بغياب ملذاتها وشهواتها وتأخرها عنهم؛ إذ لنفوسهم على قلوبهم غلبة وسلطان، والله المستعان.
* اعتكافه صلى الله عليه وسلم وخلوته بربه سبحانه: والمتأمل في حاله في الاعتكاف يلحظ ما يلي:
1- اعتكافه صلى الله عليه وسلم في المدينة في رمضان من كل سنة، وتقلبه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف في كل عشر من الشهر، ثم استقراره في آخر الأمر على الاعتكاف في العشر الأواخر منه، لإدراك ليلة القدر.
2- أمره صلى الله عليه وسلم بأن يُضرب له خباء في المسجد يلزمه يخلو وحده فيه بربه [31]. قال ابن القيم: "كل هذا تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة ومجلبة للزائرين، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، فهذا لون، والاعتكاف النبوي لون، والله الموفق" [32].
3- دخوله صلى الله عليه وسلم معتكفه إذا صلى فجر اليوم الأول من العشر التي يريد اعتكافها، يدل لذلك قول عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل معتكفه" [33].
4- حرصه صلى الله عليه وسلم وهو معتكف على حسن مظهره ونظافة جسده، كما في ترجيل عائشة شعره.
5- زيارة أزواجه صلى الله عليه وسلم في حال اعتكافه وحديثه معهن، يدل لذلك حديث صفية قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت.." [34].
6- عدم خروجه صلى الله عليه وسلم من معتكفه إلا لحاجة، يدل لذلك قول عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم "كان لا يدخل البيت إلا لحاجة، إذا كان معتكفاً"[35] وربما أخرج بعض جسده من المعتكف لحاجة، كترجيل رأسه [36].
7- خروجه صلى الله عليه وسلم من معتكفه مصبحاً لا ممسياً من الليلة التي تلي اعتكافه، كما في حديث أبي سعيد الخدري |أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عاماً حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه" [37].
وفي اعتكافه صلى الله عليه وسلم وانقطاعه من نفسه ليجتهد في ذكر ربه وعبادة مولاه مع كونه المنتصب لدعوة الناس القائم بشؤون الأمة: دليل على مسيس حاجة الدعاة إلى أوقات خلوة ومراجعة ومحاسبة، وإن التقصير في ذلك يرسخ عيوب النفس ويزيد أمراضها، حتى تكون مزمنة، كما أن حرمان القلب من زادِهِ مورث لقسوته وغفلته وقلة بصيرته وفُرقَانه، وأيضاً فإن ترك استمداد عون المعين طريق الخذلان. ومن أفضل السبل لتدارك ذلك: الخلوة بالنفس لتجديدها، ولا أفضل من الاعتكاف لتحقيق ذلك. وقد كثر في الناس ترك هذه السنة المباركة، قال الإمام الزهري: "عجباً للمسلمين! تركوا الاعتكاف، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم، ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل" [38].
* حرصه صلى الله عليه وسلم على تحري ليلة القدر.
* اجتهاده صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر وتركه النوم في لياليها.
قالت عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر" [39].
* حرصه صلى الله عليه وسلم على مخالفة أهل الكتاب في أعمال رمضان، وهذا بيِّن من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما عَجَّلُوا الفطْر. عَجِّلُوا الفطر فإن اليهود يؤخرون» [40].
* إكثاره صلى الله عليه وسلم من العمل في رمضان في آخر حياته. عن أبي هريرة قال: "كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف كل عام عشراً، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه" [41].
تلك معالم بارزة وصور مضيئة في صون الحبيب صلى الله عليه وسلم لأشرف علاقة في حياة الإنسان، وتحقيقه لغاية المحبة لمولاه عز وجل بقيامه بأمره ورعايته لدينه وتكميله لطاعته. إنها النبراس لسالك الصراط المستقيم، من حاد عنها اضطرب أمره وتفرق شأنه، ولم يزل في عوج ولُجَج حتى يبغي طريقاً إلى سنته صلى الله عليه وسلم.