الحمد لله الذي أعظم على عباده المنَّة، بما دفع عنهم كيد الشيطان وفنَّه، وردَّ أمله وخيّب ظنَّه، إذ جعل الصوم حصناً لأوليائه وجُنَّة، وفتح لهم به أبواب الجنَّة، وعرفهم أن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات المستكنة، وأن بقمعها تصبح النفس المطمئنة، ظاهرة الشوكة في قصم خصمها قوية المُنَّة.
والصلاة على محمد قائد الخلق وممهد السنة، وعلى آله وأصحابه ذوي الأبصار الثاقبة والعقول المرجحة وسلم تسليماً كثيرا.أما بعد:
فقد أضلنا ضيف عزيز على القلوب، وحبيب إلى النفوس، شهر يحمل بين طياته وخلال أيامه ولياليه الخير والبركة، إنه شهر رمضان الكريم، شهر القرآن والصيام، شهر التهجد والقيام، شهر العتق من النار، شهر تصفد فيه الشياطين، وتغلق في أبواب النيران، وتفتح فيه أبواب الجنان، شهر الجور العظيمة، والفضائل الجسيمة، إنه شهر رمضان، فحري بكل من أدرك هذا الضيف أن يستقبله أحين استقبال، وأن يقدم لنفسه العمل الصالح حتى يخرج من هذا الشهر وقد زكت روحه وطهرت نفسه، وفيما يلي بيان فضل هذا الشهر وما يجب على المسلم معرفته من أحكام وواجبات، ونسأل الله أن يتقبل من الجميع.
دعاء رؤية الهلال:
عن طلحة بن عبيدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا رأى الهلال قال: (اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله) [حديث حسن، رواه أحمد والترمذي].
فضل شهر شعبان، والتحذير من البدع فيه:
قبل أن نبدأ في ذكر فضائل شهر رمضان، نود أن نتعرض لبعض الأعمال الفاضلة في شهر شعبان، والتطرق أيضا لبعض المنكرات لتي استحدثت فيه، فقد ورد في صحيح البخاري، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان.
وكان يقول: (خذوا من العمل ما تُطيقُون، فإن الله لا يمل حتى تملوا). واعلم أخي المسلم بأن أحب الأعمال إلى الله عز وجل أدومها وان قلّ.
وروى أبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: يا رسول الله! لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: (ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم).
قال صاحب فقه السنة: وتخصيص صوم يوم النصف منه، ظناً أن له فضيلة على غيره، مما لم يثبت به دليل صحيح.
ومن البدع الفاشية في الناس، احتفال المسلمين في المساجد بإحياء ليلة النصف من شعبان، بالصلاة، والدعاء عقب صلاة المغرب، يؤدونه بأصوات مرتفعة بتلقين الإمام، فإن إحياءها بذلك على الهيئة المعروفة، لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
تعريف الصوم:
الصوم لغة: الإمساك، وشرعاً: الإمساك بنية التعبد عن الأكل والشرب وغشيان النساء، وسائر الفطورات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
فضله:
قال صلى الله عله وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله عز وجل زحزح الله وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفاً) [متفق عليه]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (للصائم عند فطره دعوة لا ترد) [ابن ماجه والحاكم وصححه].
فوئد الصيام:
فوائد روحية: أنه يعود الصبر ويقوي عليه، ويعلم ضبط النفس ويساعد عليه، ويوجد في النفس ملكة التقوى ويربيها، وبخاصة التقوى التي هي العلامة البارزة من الصوم.
فوائد اجتماعية: أنه يعود الأمة النظام والاتحاد، وحب العدل والمساواة، ويكوّن في المؤمنين عاطفة الرحمة وخلق الإحسان، كما يصون المجتمع من الشرور والمفاسد.
فوائد صحية: فهو يطهر الأمعاء ويصلح المعدة، وينظف البدن من الفضلات والرواسب، ويخفف من وطأة السمنة وثقل البطن بالشحم، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (صوموا تصحوا) [ابن السني، وأبو نعيم وحسنه السيوطي].
ماذا على من سابه أحد وهو صائم:
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصيام جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إني صائم).
وجوب صوم رمضان:
صيام شهر رمضان واجب بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، فقد قال تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) [البقرة]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) [متفق عليه].
ما يجب على الصائم:
يجب عليه أن يكثر من الطاعات ويجتنب جميع المنهيات. ويجب عليه المحافظة على الواجبات. والبعد عن المحرمات، فيصلي الصلوات الخمس في أوقاتها مع الجماعة، ويترك الكذب والغيبة والغش والمعاملات الربوية وكل قول أو فعل محرم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) [رواه البخاري].
فضل رمضان:
لرمضان فضائل عظيمة، ومزايا عديدة لم تكن لغيره من الشهور، قال صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، إن اجتنبت الكبائر) [رواه مسلم]. وقوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه) [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم: (ورأيت رجلاً من أمتي يلهث عطشاً كلما ورد حوضاً منع منه، فجاءه صيام رمضان فسقاه وروّاه) [الطبراني في حديث منامه الطويل]. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجان، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشرّ أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة) [الترمذي وقال غريب ورواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين].
البر والإحسان في رمضان:
الصدقة: إذ قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة صدقة في رمضان) [الترمذي وهو ضعيف] وقال صلى الله عليه وسلم: (من فطر صائماً فله أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء) [أحمد والترمذي وهو صحيح]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من فطر صائماً على طعام أو شراب من حلال صلّت عليه الملائكة في ساعات شهر رمضان وصلى عليه جبريل ليلة القدر) [الطبراني وأبو الشيخ]، وكان صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل) [رواه البخاري].
قيام الليل: إذ قال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) [متفق عليه]، وكان صلى الله عليه وسلم يحيي ليالي رمضان، وإذا كان العشر الأواخر أيقظ أهله، وكل صغير وكبير يطيق الصلاة) [رواه مسلم].
تلاوة القرآن الكريم: إذ كان صلى الله عليه وسلم يكثر من تلاوة القرآن الكريم في رمضان، وكان جبريل عليه السلام يدارسه القرآن في رمضان) [رواه البخاري]. وكان صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في قيام رمضان أكثر مما يطيل في غيره، فقد صلى معه حذيفة ليلة فقرأ بالبقرة ثم آل عمران ثم النساء، لا يمرّ بآية تخويف إلا وقف عندها يسأل فما صلى ركعتين حتى جاء (بلال) فآذنه بالصلاة كما ورد في الصحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقيام يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصوم: ربِّ منعته الطعام والشراب بالنهار، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعنا به) [أحمد والنسائي].
الاعتكاف: وهو ملازمة المسجد للعبادة تقرّباً إلى الله عز وجل، فقد اعتكف صلى الله عليه وسلم ولم يزل يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى كما ورد في الصحيح. وقال عليه الصلاة والسلام: (المسجد بيت كل تقي، وتكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنة) [الطبراني والبزار].
الاعتمار: وهو زيارة بيت الله الحرام للطواف والسعي، في رمضان، إذ قال صلى الله عليه وسلم: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي) [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) [متفق عليه].
شروط الصوم:
يشترط في وجوب الصوم على المسلم أن يكون عاقلاً بالغاً، لقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم) [أحمد وأبو داود وهو صحيح]، وإن كانت مسلمة يشترط لها في صحة صومها أن تكون طاهرة من دم الحيض والنفاس، لقوله صلى الله عليه وسلم في بيان نُقصان دين المرأة: (أليست إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟ ) [البخاري].
صوم المسافر:
إذا سافر المسلم مسافة قصر، وهي ثمانية وأربعون ميلاً، رخص له الشارع في الفطر على أن يقضي ما أفطر فيه عند حضوره، لقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر) [البقرة]. ثم هو إن كان الصوم في السفر لا يشق عليه فصام لكان أحسن، وإن كان يشق عليه فأفطر كان أحسن. لقول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم، ومنا المفطر فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، ثم يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفاً فأفطر، فإن ذلك حسن) [مسلم].
صوم المريض:
إذا مرض المسلم في رمضان نظر، فإن كان يقدر على الصوم بلا مشقة شديدة صام، وإن لم يقدر أفطر، ثم إن كان يرجو البرء من مرضه فإنه ينتظر حتى البرء ثم يقضي ما أفطر فيه، وإن كان لا يرجى أفطر وتصدق عن كل يوم يفطره بمدّ من طعام، أي حفنة قمح، لقوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) [البقرة].
الشيخ الكبير:
إذا بلغ المسلم أو المسلمة سنّا من الشيخوخة لا يقوى معه على الصوم أفطر وتصدق على كل يوم يفطره بمدّ من طعام لقول ابن عباس رضي الله عنهما: (رخص للشيخ الكبير أن يطعم عن كل يوم مسكيناً ولا قضاء عليه) [الدار قطني والحاكم وصححه].
الحامل والمرضع:
إذا كانت المسلمة حاملاً فخافت على نفسها، أو على ما في بطنها أفطرت، وعند زوال العذر قضت ما أفطرته، وإن كانت موسرة تصدَّقت مع كل يوم تصومه بمدّ من قمح فيكون أكمل لها وأعظم أجراً.
هكذا الحكم بالنسبة إلى المرضعة إذا خافت على نفسها، أو على ولدها ولم تجد من ترضعه لها، أو لم يقبل غيرها. وهذا الحكم مستنبط من قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) [البقرة]، فإن معنى يطيقونه: يطيقونه بمشقة شديدة، فإن هم أفطروا قضوا أو أطعموا مسكيناً.
تنبيه:
ـ من فرّط في قضاء رمضان بدون عذر حتى دخل عليه رمضان آخر فإن عليه أن يطعم مكان كل يوم يقضيه مسكيناً.
ـ من مات من المسلمين وعليه صيام قضاه عنه وليه لقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عن وليه) [متفق عليه] وقوله لمن سأله قائلاً: (إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأصومه عنها؟ قال: نعم، فدين الله أحق أن يقضى) [متفق عليه].
أركان الصوم:
1ـ النية، وهي عزم القلب على الصوم امتثالاً لأمر الله عز وجل، أو تقرّباً إليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يبيِّت الصيام من الليل فلا صيام له) [الترمذي]، وإن كان نفلاً صحت ولو بعد طلوع الفجر، وارتفاع النهار إن لم يكن قد طعم شيئاً، لقول عائشة رضي الله عنها: (دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: (هل عنكم شيء؟ قلنا: لا قال: فإني صائم) [مسلم].
2ـ الإمساك، وهو الكف عن المفطرات من أكل وشرب وجماع.
3ـ الزمان، والمراد به النهار، وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فلو صام امرؤ ليلاً وأفطر نهاراً لما صحّ صومه أبداً، لقوله تعالى: (وأتموا الصيام إلى الليل) [البقرة].
سنن الصوم:
1ـ تعجيل الفِطر، وهو الإفطار عقب تحقق غروب الشمس لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) [متفق عليه]. وقول أنس رضي الله عنه: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليصلي المغرب حتى يفطر ولو على شربة ماء) [الترمذي وحينه].
2ـ كون الفِطر على رطب أو تمر أو ماء، وأفضل هذا الثلاثة أولها وآخرها أدناها، وهو الماء ويستحب أن يفطر على وتر: ثلاث أو خمس أو سبع لقول أنس بن مالك: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطباً قبل أن يصلي فإن لم تكن فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من ماء [الطبراني].
3ـ الدعاء عند الإفطار إذا كان صلى الله عليه وسلم يقول عند فطره: (اللهمّ لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا، فتقبّل منّا إنك أنت السميع العليم) [أبو داود]. وكان ابن عمر يقول: (اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي ذنوبي) [رواه ابن ماجه وهو صحيح].
4ـ السحور، وهو الأكل والشرب في السحر آخر الليل بنية الصوم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) [مسلم]. وقوله: (تسحروا فإن في السحور بركة) [متفق عليه].
5ـ تأخير السحور إلى الجزء الأخير من الليل لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخّروا السحر) [أحمد وهو صحيح]. ويبتدئ وقت السحور من نصف الليل الآخر وينتهي قبل الفجر بدقائق لقول زيد بن ثابت رضي الله عنه: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة فقلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية) [متفق عليه].
تنبيه:
من شك في طلوع الفجر له أن يأكل أو يشرب حتى يتيقّن طلوع الفجر ثم يمسك لقوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) [البقرة]. وقد قيل لا بن عباس رضي الله عنه: (إني أتسحر فإذا شككت أمسكت، فقال له: كل ما شككت حتى لا تشك) [رواه ابن أبي شيبه وأورده الحافظ في الفتح].