وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون، وصيتي وصية ربكم لكم ولمن كان قبلكم: } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِى ٱلأرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا { [النساء:131]. فاتقوا الله يا عباد الله، }يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ { [آل عمران:102].
أيها الإخوة المؤمنون، يقول الله عز وجل: }ٱعْلَمُواْ أَنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ٱلأَمْوٰلِ وَٱلأَوْلْـٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِى ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوٰنٌ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ { [الحديد:20].
ففي هذه الآية يبين لنا الله جل جلاله حقيقة الدنيا، وهو سبحانه الذي خلق الدنيا العالم بها الخبير بصفاتها جل جلاله، يبين مقدار الدنيا وحقيقتها. هذه الدنيا التي تعلقت بها نفوسنا ولم يَسلَم منها إلا من رحم الله، ما حقيقتها؟ وما مقدارها؟
الجواب اسمعوه من الله، يقول جل جلاله: }ٱعْلَمُواْ أَنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ٱلأَمْوٰلِ وَٱلأَوْلْـٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ {.
بيان لحقارة الدنيا ومهانتها، وصدق الله، فما مقدار وما حقيقة اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر بحطام فانٍ، إنما هو كمثل غيث أي: مطر نزل فأنبت حتى اكتمل نباته، فنال إعجاب الناس، وما هي إلا أيام وإذا به: }يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا {، فلم تبقَ له نضارة، ولم تستمرَّ له خضرة، إنما صار يابسًا متحطمًا، وهكذا هي الدنيا، يعجب بها من جهل حقيقتها ومن خُدع بزخارفها، فما هي إلا فترة من الزمن فإذا بها لا وجود لها.
}وَفِى ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوٰنٌ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ { أي: ليس في الآخرة الآتية القريبة إلا أحد أمرين: إما هذا، وإما هذا، إما عذاب شديد، وإما مغفرة من الله ورضوان، }وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ {.
أيها الإخوة المؤمنون، إن هذه الآية العظيمة دلت على أن الدنيا زائلة مهما طالت، وأن الآخرة باقية، أو بعبارة أخرى: أن الدنيا محدودة متناهية والآخرة لا نهاية، فلا مقارنة بين محدود منتهٍ وبين باقٍ لا نهاية له، فكم يعيش الإنسان؟ وكم مدة بقائه في هذه الحياة؟ أنت ـ يا عبد الله ـ كم ستعيش في هذه الحياة؟ وكم ستبقى فيها؟ هذه الحياة المنتهية المنقضية التي لا قيمة لها، كم ستعيش فيها: مائة سنة؟ قل: مائة سنة، فما نسبة هذه المائة لفترة لا نهاية لها؟ وصدق الله: }فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ { [التوبة:38].
إن هذه الدنيا تشبه السراب الذي يحسبه الظمآن ماء، فيركض خلفه ويسعى في طلبه، حتى يموت عطشًا، وهو سراب، وهكذا هي الدنيا.
وقد صدق من شبهها بالرؤيا في المنام، فالإنسان النائم أحيانًا يرى عجائب وأشياء لا نصيب لها من الواقع، يتلذذ بها ولكن سرعان ما تنتهي وتزول فور استيقاظه من نومه، يستيقظ فيعلم أنه في حلم، وهكذا هم أرباب الدنيا، يظنون أن ما يجمعونه ذو قيمة ومقدار، وما هو في الحقيقة إلا حطام وعَرَض زائل ومتاع منتهٍ، ومتى يعلمون ذلك؟ عند توديعهم لهذه الدنيا، عندها يصحون من غفلتهم ويستيقظون من رقدتهم.
إن هذه الدنيا ـ أيها الإخوة ـ ما هي إلا محطة في طريق وممر إلى مستقر، روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتَّخذنا لك وطاءً، فقال: ((ما لي وللدنيا؟! ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)).
أيها الإخوة المؤمنون، إن كثيرا من الناس يجهل حقيقة الدنيا، ولذلك تجده قد تعلق بها وشُغف بحبها وصارت عنده كل شيء، وهي لا تساوي شيئًا، شبهها النبي صلى الله عليه وسلم بالجدي الأسكّ، كما في الحديث الصحيح عند مسلم الذي رواه جابر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرّ بالسوق والناس كَنَفَتَيْهِ، فمرّ بِجَدْي أَسَكّ ميّت ـ يعني صغير الأذنين وميّت ـ فتناوله فأخذ بأذنَيه ثم قال: ((أيّكم يحبّ أن هذا له بدرهم؟)) فقالوا: ما نحبّ أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟! ثم قال: ((أتحبّون أنه لكم؟)) قالوا: والله لو كان حيًا كان عيبًا أنه أَسَكّ، فكيف وهو ميت؟! فقال: ((فوالله، للدنيا أهْونُ على الله من هذا عليكم))، الدنيا عند الله أهون من هذا عندكم، هذا الجدي الميت الذي لو كان حيًّا ما قُدِّر بدرهم الدنيا أهون وأقلّ قيمة منه. هذه التي تتعادَون من أجلها، وتتقاطعون بأسبابها، وتكذبون وتحتالون وتتكبّرون من أجل حُطامها، لا تساوي ما يقدَّر بأقلّ من درهم.
هذه حقيقة الدنيا، وهذا مقدارها، وفي الحديث عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شَربة ماء)) رواه الترمذي. إذًا حتى جناح البعوضة لا تعدله الدنيا عند الله عز وجل.
فلنحذر ـ أيها الإخوة ـ من هذه الدنيا ومن التنعم بها، وخاصة إذا كان ذلك على حساب الآخرة، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بأنعَمِ أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيُصْبغ في النار صبْغَةً ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب)) مجرد صبْغَةٍ في النار ينسى، سبحان الله! أين ذلك النعيم؟! وأين سعة الصدر وذلك السرور؟! نسيه بسبب صبغة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)).
أيها الإخوة المؤمنون، إن هذه الدنيا التي لا حقيقة لها ولا تناسب بينها وبين الآخرة أعطيت أكبر من قدرها، وأكثر الناس كما قال القائل:
على الدين فليبك ذوو العلم والهدى فقد طمست أعلامه في العوالم
وقد صار إقبال الورى واحتيـالهم على هذه الدنيا وجمع الدراهم
وإصلاح دنيـاهم بإفساد ديـنهم وتحصيل ملذوذاتِها والمطـاعم
يعادون فيها بل يوالـون أهلها سواء لديهم ذوو التقى والجرائم
فلنتقِ الله أيها الإخوة، فإن متاع الدنيا قليل، والآخرة هي الحيوان، } وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ {، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((موضع سَوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولغُدْوَة في سبيل الله أو رَوْحَة خير من الدنيا وما فيها)) رواه البخاري.
اللهم إنا نسألك الجنة، ونعوذ بك من النار، اللهم إنا نسألك أن لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون، هذه هي الدنيا، وتلك حقيقتها، ولكنها مُزيَّنة كما قال جل جلاله: }زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوٰتِ مِنَ ٱلنّسَاء وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَـٰطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأنْعَـٰمِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ { [آل عمران:14].
ولذلك ـ أيها الإخوة ـ حذّر الله من الاغترار بها والانخداع بزخارفها وملذاتها، فقال عز وجل: }يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ { [فاطر:5].
أيها الإخوة، إن الحياة الدنيا والتعلق بها والعمل من أجلها أمر خطير، بيَّن الله سوء عواقبه وشر نتائجه، وحذر منه، وحث على الإعراض عنه والإقبال على الآخرة التي لا تقارن الدنيا بها، يقول عز وجل: }وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِىَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ { [العنكبوت:64] أي: إن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية، الحياة الباقية، الحياة الهانئة التي لا زوال لها ولا انقضاء. وروى الإمام مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما الدنيا في الآخرة إلا مَثَلُ ما يجعل أحدُكم إِصبَعَهُ في اليَمِّ، فلينظر بم يرجع)) واليم يعني البحر.
هذه الدنيا التي تعلقَتْ بها كثيرٌ من النفوس، فصار بعض الناس يفني شبابه ويفرط بصحته ويضيع عمره من أجلها، فهي بالنسبة للآخرة مثل ما يعلق بالإصبع من ماء البحر. فيا لخسارة من تعلق بالقليل وأعرض عن ذلك الذي لا حصر له.
أيها الإخوة المؤمنون، ويكفي في ذم الدنيا ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن الدنيا ملعونة ـ معنى ملعونة أي: ساقطة مبغوضة ـ ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالمًا ومتعلمًا)).
فلنحذر الدنيا، ولنحذر كل ما يبعدنا فيها عن الله، ولنجعل هذه الدنيا القصيرة مزرعة للآخرة، ولنحذر طول الأمل، فإنه يمنع من خير العمل.
وخير الكلام كلام الله عز وجل: }فَأَمَّا مَن طَغَىٰ وَءاثَرَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ { [النازعات:37-41].
أسأل الله أن ينفعني وإياكم به، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه سميع مجيب.
اللهم إنا نسألك الفقه في الدين والتمسك بالكتاب المبين والاقتداء بسيد المرسلين والفوز بالدار الآخرة مع عبادك المؤمنين. اللهم إنا نسألك نصر الإسلام وعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين وأذل الشرك والمشركين ، اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين ، اللهم عليك باليهود المعتدين ، وبالنصارى الحاقدين ، وبكل من عادى عبادك المؤمنين .
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين ، واشف مرضانا ومرضى المسلمين .
اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك وتقاك واتبع رضاك يارب العالمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .