الحمد لله الذي سهل لعباده إلى مرضاته سبيلاً، وأوضح لهم الهداية وجعل الرسول عليها دليلاً، ورضي لهم نفسه رباً، والإسلام ديناً، ومحمداً نبياً ورسولاً، أحمده حمد من لا رب له سواه وأشكره على جزيل فضله وعطاياه، وأشهد أن الحلال ما أحلَّه، والحرام ما حرمه والدين ما شرعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين الذي يأمر وينهى، ويفعل ما يشاء، وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المرتضى، الذي لا ينطق عن الهوى، أرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أوضح السبل، أشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت به القلوب بعد شتاتها، فصلوات الله وسلامه عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار، وتعاقب الليل والنهار.
عباد الله:
عن السائب بن مالك، قال: كنا جلوسا في المسجد، فدخل عمار بن ياسر فصلى صلاة أخفها، فمر بنا فقيل له: يا أبا اليقظان: خففت الصلاة، فقال: أوَ خَفيفةً رأيتموها؟ قلنا: نعم. قال: أما إني قد دعوت فيها بدعاء قد سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ثم مضى فاتبعه السائب فسأله عن الدعاء، ثم رجع فأخبرهم بالدعاء: "اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْينِي مَا عَلِمْتَ الْحَياةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْألُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لاَ يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَأَسْأَلَكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غيرِ ضَرَّاءٍ مُضِّرَةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإيِمَانِ، وَاجْعَلنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ".
إنَّ هذا الدعاء قد حوى أعظم لذة في الدنيا، وهي الشوق إلى لقاء الله -تعالى-، وأعظم لذة في الآخرة، وهي النظر إلى وجهه عَزَّ وجل.
إن شوق النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ظاهراً لمن تأمل سيرته، فها هو يحسر ثيابه عن جسده الشريف ليصيبه المطر، فيُسْألُ عن هذا فيقول: "إنّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِربِّه".
وازداد شوقه لربه -تعالى- في آخر حياته، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: "إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ". فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا! فَعَجِبْنَا لَهُ، وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمُنَا بِهِ.
ها هو -بأبي هو وأمي- مسنداً رأسه على صدر أحب الناس إليه في الدنيا، عائشة رضي الله -تعالى- عنها فيخيِّره جبريل -عليه السلام- بين الدنيا وبين لقاء الله -تعالى-، تقول: "فرأيته رفع إصبعه ثم قال: بل الرفيق الأعلى! بل الرفيق الأعلى! بل الرفيق الأعلى! فعلمتُ أنه لا يختارنا".
بل كان أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام- يسألون ربهم هذا الأمر ويذكرونه ويحبونه, ففي أخبار داود عليه - السلام-: "إن الله تعالى قال: يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني, وجليس لمن جالسني, ومؤنس لمن أنس بذكري, وصاحب لمن صاحبني, ومختار لمن اختارني, ومطيع لمن أطاعني, ما أحبني عبد أعلم ذلك يقيناً من قلبه؛ إلا قبلته لنفسي وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي, من طلبني بالحق وجدني, ومن طلب غيري لم يجدني, فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها, وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي وائنسوا بي أؤانسكم وأسارع إلى محبتكم, فإني خلقت طينة أحبائي من طينة إبراهيم خليلي وموسى نجيي ومحمد صفيي, وخلقت قلوب المشتاقين من نوري ونعمتها بجلالي".
ويقول أبو الدرداء -رضي الله عنه- لكعب الأحبار: "أخبرني عن أخص آية - يعني في التوراة- فقال: يقول الله تعالى: طال شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم لأشد شوقاً". قال: ومكتوب إلى جانبها: "من طلبني وجدني ومن طلب غيري لم يجدني". فقال أبو الدرداء: "أشهد إني لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا".
وأوحى الله تعالى إلى داود: "يا داود لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم؛ لماتوا شوقاً إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي. يا داود هذه إرادتي في المدبرين فكيف إرادتي في المقبلين علي, يا داود أحوج ما يكون العبد إلي إذا استغنى عني, وأرحم ما أكون بعبدي إذا أدبر عني, وأجلّ ما يكون عندي إذا رجع إلي".
إن الشوق إلى الله لذة لا يتلذذ بها إلا من عاش مع الله, وتلذذ بمعاني هذه الحياة مع الله!! وأصبح لا يجري في قلبه غير الله, يعيش حياة الملوك من عرف الله حتى لو كان لا يجد مأكله ومشربه وملبسه, حتى لو كان لا يجد ما يظله من لفح الشمس فظله ذاك الحب الذي خالط شغاف قلبه وسرى في عروقه, حتى ولو كان ألم المرض يكسر عظامه ويفتت لحمه فقد خدر ذلك الحب جسده, فلم يعد يشعر بشيء غير الله. يقول الحسن -رحمه الله تعالى-: "والذي نفسي بيده ما أصبح في هذه القرية من مؤمن إلا وقد أصبح مهموماً محزونًا، ففروا إلى ربكم وافزعوا إليه؛ فإنه ليس لمؤمن راحة دون لقائه".
وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: "أحب الموت اشتياقا لربي". ويقول عبد الله بن زكريا: "لو خيرت بين أن أعيش مائة سنة في طاعة الله أو أقبض في يومي هذا أو في ساعتي هذه؛ لاخترت أن أقبض في يومي هذا وساعتي هذه شوقا إلى الله وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وإلى الصالحين من عباده". وقال يحيى بن معاذ: "يخرج العارف من الدنيا ولا يقضي وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه, وشوقه إلى ربه". ويقول عبدالواحد بن زيد: "يا إخوتاه ألا تبكون شوقاً إلى الله؟ ألا من بكى شوقاً إلى سيده لم يحرمه النظر إليه".
وكان أبو عبيدة الخواص يمشي في الأسواق ويقول: "واشوقاه إلى من يراني و لا أراه". وكان الحارث بن عمير يقول إذا أصبح: "أصبحت ونفسي وقلبي مصر على حبك ومشتاق إلى لقائك, فعجل بذلك قبل أن يأتيني سواد الليل". فإذا أمسى قال مثل ذلك فلم يزل على مثل هذه الحال ستين سنة!.
كَان يَحيى بن معاذ -رحمه الله- يقول: يَخْرُج المُحِبّ مِنَ الدُّنيا وَمَا قَضَى وَطرَهُ من شيئين: بُكَاؤه عَلى ذنوبه، وَشَوقه إلى رّبه ومَحْبوبه!
إذا كان حُبُّ الهائمين من الورى
بليلى وسلمى يسْلُبُ اللُّبَّ والعَقْلا
فماذا عسى أنْ يصنعَ الهائمُ الذي
سرى قلبُه شوقاً إلى الملأ الأعلى؟!
وتأملوا قصة أبي الدحداح -رضي الله عنه- كيف حرك الشوق قلبه وألبسه حب البذل اشتياقاً للأجر العظيم من الله -سبحانه وتعالى-، فعن عبد الله بن مسعود قال: "لما نزلت هذه الآية: ﴿ مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ﴾ [الحديد: 11] قال أبو الدحداح الأنصاري: وإن الله يريد منا القرض؟ قال النبي –عليه الصلاة والسلام-: "نعم يا أبا الدحداح" قال: "أرني يدك يا رسول الله، قال فناوله رسول الله يده، قال فإني أقرضت ربي حائطي قال: حائطه له ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها. قال فجاء أبو الدحداح فنادي يا أم الدحداح! قالت: لبيك، قال: أخرجي من الحائط فإني أقرضته ربي -عز وجل-. [صححه الألباني مشكلة الفقر (120)].
وفي معركة بدر صاح النبي -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه وقال لهم: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض, والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر؛ إلا أدخله الله الجنة". فألقى عمير بن الحمام تمرات كانت في يده,: وقال والله إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات فقاتل حتى قتل.
وما ألطفَ وأحسن ما قاله ذلك الشاعر المحب:
ما عنك يشغلني مالٌ ولا ولد
نسيتُ باسمكَ ذكرَ المالِ والولدِ
فلو سفكتَ دمي في الترب لانكتبت
به حروفك لم تنقص ولم تزدِ
إنه يقول: إن دمه لو جرى على الأرض لكتب كلمة (الله)! لما جرى في هذا الدم من محبة الله والشوق إليه.
إنّ عالم المشتاقين إلى الله أيها الأحبة عالمٌ عجيب! ملؤه النور والبهاء، وملؤه السكينة والنقاء، وملؤه كذلك اللذة والهناء.
ولما حضرت بلالَ بنَ أبي رباحٍ الوفاةُ وغشيته سكرات الموت, قالت امرأته: واكرباه، فقال لها بلال: بل وافرحاه، غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه.
قال أبو حازم - رحمه الله -:
" كل عمل تكره الموت من أجله فاتركه، ثم لا يضرك متى مت "..
وقال بعض السلف: " ما يكره الموت إلا مُريب "..
وأحسن القائل عندما قال:
أمستوحشٌ أنت مما جَنَيْتَ؟
فأحسن إذا شئت واستأنسِ
فهؤلاء قوم ائتمروا بأمر الله وساروا على نهج الله فاشتاقوا للقاء الله والشرب من حوض رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-, قلوبهم ساجدة تحت العرش، وأبدانهم تحن وتئن إلى الملأ الأعلى حنين الطيور إلى أوكارها.
ليس في قلوبهم محبوب أعظم ولا أحب من الله -عز وجل-، فمحبته فوق كل محبة، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 165]، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ الله لِقَاءَه". فقالت عَائِشَةُ أو بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: "إنا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ" قال: "ليس ذاك، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إذا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ, فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إليه مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ الله لِقَاءَهُ، وإن الْكَافِرَ إذا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ أَكْرَهَ إليه مِمَّا أَمَامَهُ فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ الله لِقَاءَهُ" [البخاري (6507) مسلم (2684).
الشوق إلى الله؟؟
هو سفر القلب في طلب المحبوب، المحب دائماً مشتاق إلى لقاء حبيبه، لا يهدأ قلبه، ولا يقر قراره إلا بالوصول إليه..
• الشوق هو اهتياج القلوب إلى لقاء الله..
• وقيل: مَن اشتاق إلى الله -تعالى- اشتاق إليه كل شيء..
قوم تخللهم زهو بسيدهم
والعبد يزهو على مقدار مولاه
تاهوا به عمن سواه له يا
حسن رؤيتهم في حسن ما تاهوا
• فلا عيش إلا عيش المحبين لأن هممهم لا ترضى بالدون ولا حب عندهم إلا للحبيب الأول ((مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها‘ قيل: ومأ طيب ما فيها؟: قال محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته )).
بارك الله لي ولكم.....
أخي المؤمن:
كيف هو شوقك إلى ربك؟ كيف هو شوقك إلى من خلقك ولم تك شيئاً؟ كيف هو شوقك إلى مَن رَزَقَكَ في بطن أمك في ظلمات ثلاث؟ كيف هو شوقك إلى من أنعم عليك نعماً لا تحصى؟.
قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآَتٍ ﴾[العنكبوت:5]. قال ابن القيم -رحمه الله-: قيل: هذا تعزية للمشتاقين، وتسلية لهم. أي: أنا أعلم أن من كان يرجو لقائي، فهو مشتاق إلي، فقد أجَّلت له أجلاً يكون قريباً؛ فإنه آتٍ لا محالة، وكل آتٍ قريب... وفيه تعليل للمشتاقين برجاء اللقاء.
إن الناس في أشواقهم على ثلاثةِ مراتب:
الأولى: مرتبةُ السابقين: وهم أولئك الذين توجهت أشواقهم إلى معالي الأمور وكرائمها، فامتلأت قلوبهم بالشوق إلى الله وجنته ورسوله وضروب طاعتِهِ.
والثانية: مرتبة العالقين: وهم الذين تنازعتهم الأشواق، فمرةً إلى العليا ومرةً إلى الدنيا، يسمو بهم إيمانهم وتكبو بهم أدرانهم.
والثالثة: مرتبة الغارقين: وهم الذي غرقوا في الدنيا، فما عرفوا شوقاً إلى غيرها، ملأت قلوبهم فسعوا إليها لا يبالون حلالها من حرامِها. وتضخمتْ محبتها حتى لم تبق لمحبة الله مكاناً.
فكن -يا عبد الله- من أصحاب المرتبة الأولى الذين يشتاقون إلى رؤية وجه الله -عز وجل- في الجنة, فقلوبهم مشتاقة لنيل هذا الشرف العظيم واللذة الكبرى، فهو -سبحانه- أعظم من سجدت الوجوه لعظمته، وبكت العيون حياءً من مراقبته، وتقطعت الأكباد شوقاً إلى لقائه ورؤيته.
هذا وإن سألت عن يوم المزيد وزيارة العزيز الحميد ورؤية وجهه المنزَّه عن التمثيل والتشبيه كما تُرى الشمس في الظهيرة والقمرُ ليلة البدر، كما تواترَ عن الصادق المصدوق النقلُ فيه، وذلك موجود في الصحاح والسنن والمسانيد من رواية جرير وصهيب وأنس وأبي هريرة وأبي موسى وأبي سعيد - رضي الله عنهم أجمعين -.
فاستمع يوم ينادي المنادي: "يا أهل الجنة إنَّ ربكم تبارك وتعالى يَسْتَزِيرَكُم، فحيَّ على زيارته، فيقولون سمعًا وطاعةً، وينهضون إلى الزيارة مُبَادِرِين، فإذا بالنجائبِ قد أُعدَّت لهم، فيستوون على ظهورها مُسْرِعِين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأَفْيَحِ الذي جُعِلَ لهم مَوْعِدًا وجُمعوا هناك، فلم يُغَادر الداعي منهم أحدًا.
أَمَر الربُّ تبارك وتعالى بكرسيه فنُصب هناك، ثم نصبت له منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم على كثبان المسك، وليس فيهم دني، ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا، حتى إذا استقرت بهم مجالسهم واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي: يا أهل الجنة إنَّ لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟! ألم يبيض وجوهنا؟! ويثقِّل موازيننا؟! ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟! فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نورٌ أشرقت له الجنة، فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبَّار جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة سلامٌ عليكم، فلا تُردُّ التحية بأحسن من قولهم: "اللهمَّ أنت السلام ومنك السلام تبارك يا ذا الجلال والإكرام"، فيتجلَّى لهم الربُّ تبارك وتعالى يضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة، فيكون أول ما يسمعون منه: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟! فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة أن: قد رضينا، فارضَ عنَّا، فيقول: يا أهل الجنة، إني لو لم أرضَ عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليك، فيكشف الرب جل وعلا الحجب، ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره وينسون كل نعيم عاينوه، ولولا أن الله سبحانه قضى ألا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في هذا المجلس أحدٌ إلا حاضره ربه محاضرة، حتى إنه ليقول: يا فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكره ببعض غدراته بالدنيا، فيقول: يا ربِّ ألم تغفر لي، فيقول: بلى بمغفرتي بلغت منزلتك هذه".