إنَّ محبَّة النبي صلى الله عليه وسلم أصل من أصول الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده»(69)، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين»(70).
قال ابن رجب: «محبة النبي صلى الله عليه وسلم من أصول الإيمان، وهي مقارنة لمحبة الله ﻷ، وقد قرنها الله بها، وتوعد من قدّم عليهما محبة شيء من الأمور المحببة طبعًا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك، فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24].
ولما قال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلَّا من نفسي فقال: «لا يا عمر، حتَّى أكون أحبَّ إليك من نفسك» فقال عمر: والله أنت أحبُّ إليَّ من نفسي، قال: «الآن يا عمر»(71).
ولا تتم هذه المحبة إلَّا بالطاعة، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، وعلامة ذلك تقديم محبة الرسول على محبة كلِّ مخلوق، وذلك فيما إذا تعارض طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أوامره وداعٍ آخر يدعو إلى غيرها من هذه الأشياء المحبوبة؛ فإن قدَّم المرء طاعة الرسول وامتثال أوامره على ذلك الداعي كان دليلًا على صحة المحبة.
وإنما تنشأ هذه المحبَّة عن معرفة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة كماله وأوصافه وعظم ما جاء به، ولا سبيل إلى المحبَّة إلا بالطاعة، ولا سبيل إلى طاعته إلا بالمتابعة.
ومحبة الرسول كما يقول ابن رجب على درجتين:
إحداهما فرض: وهي ما اقتضى طاعته في امتثال ما أمر به من الواجبات، والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات، وتصديقه فيما أخبر به من المخبرات والرضى بذلك، وأن لا يجد في نفسه حرجًا مما جاء به، ويسلم تسليمًا، وأن لا يتلقى الهدى عن غير مشكاته، ولا يطلب شيئًا من الخير إلَّا مما جاء به.
والدرجة الثانية فعلٌ مندوب إليه: وهي ما ارتقى بعد ذلك إلى اتباع سنته وآدابه وأخلاقه والاقتداء به في هديه وسمته وحسن معاشرته لأهله وإخوانه، وفي التخلق بأخلاقه الظاهرة في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، وفي جوده وإيثاره وصفحه وحلمه واحتماله وتواضعه، وفي أخلاقه الباطنة من كمال خشيته لله ومحبته له، وشوقه إلى لقائه ورضاه بقضائه، وتعلق قلبه به دائمًا، وصدق الالتجاء إليه، والتوكل والاعتماد عليه، وقطع تعلق القلب بالأسباب كلها، ودوام لهج القلب واللسان بذكره، والأنس به، والتنعم بالخلوة ومناجاته، ودعائه وتلاوة كتابه بالتدبر والتفكر.
وكان أبو بكر رضي الله عنه أكمل الخلق في المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان أكمل الخلق محبَّة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هو رضي الله عنه ولا غيره من الصحابة وهم أكمل الناس حبًّا للنبي صلى الله عليه وسلم يقيمون احتفالًا بيوم مولده غ، ولا رأوا أن ذلك دليلًا على الحبِّ.
فليس الحب دعوى باللسان وإلا لادَّعاه كلُّ أحد، قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: قال قوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد، إنّا نحبُّ ربنا، فأنزل الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] فجعل اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عَلَمًا لحبه، وعذاب لمن خالفه»(72).
وقد جاء في تفسير هذه الآية أنها نزلت في وفد بني نجران من النصارى، وأنه أمرٌ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول لوفد نجران الذين قدموا عليه من النصارى: إن كان الذي تقولونه في عيسى من عظيم القول إنما تقولونه تعظيمًا لله وحبًّا له فاتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك عهد عيسى ؛ إليكم(73).