عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لمَّا خلق الله الخلق, كتب في كتابه, فهو عنده فوق العرش: إنَّ رحمتي تغلب غضبي ".
(صحيح البخاري, كتاب التوحيد, باب قول الله ويحذركم الله نفسه, رقم:6969 ، صحيح مسلم, كتاب التوبة, باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه, رقم:2751 ، سنن الترمذي, كتاب الدعوات عن رسول الله, باب خلق الله مائة رحمة, رقم:3543 ، سنن ابن ماجه, كتاب الزهد, باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة, رقم:4295 ، مسند أحمد بن حنبل, 2/433 , رقم:9595).
فوائد الحديث:
1. سعة رحمة الله وشمولها للخلق.
رحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان وفي أي حال. وجدها إبراهيم عليه السلام في النار، ووجدها يوسف عليه السلام في الجب، كما وجدها في السجن، ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث ،ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفل رضيع مجرد من كل قوة ومن كل حراسة، ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهم لا تحزن إن الله معنا.وسيجدها كل من أخلص لله، وآوى إليه يأساً من كل من سواه ، قاصداً باب الله دون الأبواب كلها. فمتى فتح الله أبواب رحمته فلا ممسك لها، ومتى أمسكها فلا مرسل لها، ولا خوف من أحد ولا رجاء في أحد ولا مخافة من شيء ولا رجاء في شيء وإنما الخوف من الله وحده والرجاء رجاء رحمة الله وحده. إن رحمة الله تتمثل في مظاهر لا يحصيها العاد ; سواء في ذات نفسه وتكوينه, أوفيما سخر له من حوله ومن فوقه ومن تحته ; أوفيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير. رحمة الله تعالى وسعت وشملت كل شيء ،العالم العلوي، والعالم السفلي ،وما من أحد إلا وهو يتقلب في رحمة الله تعالى العامة ، المسلم والكافر، البرّ والفاجر، الظالم والمظلوم، الجميع يتقلبون في رحمة الله آناء الليل وأطراف النهار .
أ. من أشكال رحمة الله:
1) إرسال الرسل:فبرحمته أرسل إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم رؤوفاً رحيماً، فهدانا من الضلالة، وبصرنا من العمى. قال الله تعالى:{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }. [التوبة:128].
(( الرؤوف: المبالغ في الرأفة والشفقة. ... قال الحسين بن الفضل : لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم فإنه قال:{ بالمؤمنين رؤوف رحيم } وقال :{ إن الله بالناس لرؤوف رحيم }. [البقرة:143]. وقال عبد العزيز بن يحيى : نظم الآية لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز حريص بالمؤمنين رؤوف رحيم عزيز عليه ما عنتم لا يهمه إلا شأنكم وهو القائم بالشفاعة لكم فلا تهتموا بما عنتم ما أقمتم على سنته فإنه لا يرضيه إلا دخولكم الجنة )).[الجامع لأحكام القرآن:أبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، دار الفكر ـ بيروت , ط2 /1372 – 1952، 8/302 (بتصرف)].
2) إنزال المطر: قال الله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }. [الأعراف:57].
(( لما ذكر تعالى أنه خالق السماوات والأرض, وأنه المتصرف الحاكم, المدبر المسخر, وأرشد إلى دعائه لأنه على ما يشاء قادر, نبه تعالى على أنه الرزاق, وأنه يعيد الموتى يوم القيامة, فقال:{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا } أي منتشرةً بين يدي السحاب الحامل للمطر... وقوله:{ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً } أي حملت الرياح سحابا ثقالاً, أي من كثرة ما فيها من الماء تكون ثقيلة قريبة من الأرض ... وقوله:{ سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } أي إلى أرض ميتة مجدبة لا نبات فيها ... وقوله:{ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى } أي كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها كذلك نحيي الأجساد بعد صيرورتها رميما يوم القيامة ينزل الله سبحانه وتعالى ماء من السماء فتمطر الأرض أربعين يوما فتنبت منه الأجساد في قبورها كما ينبت الحب في الأرض وهذا المعنى كثير في القرآن يضرب الله مثلا ليوم القيامة بإحياء الأرض بعد موتها ولهذا قال:{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ... )).[تفسير القرآن العظيم:الإمام الجليل, الحافظ عماد الدين, أبو الفداء اسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت , ط 1388 – 1969، 2/222 (بتصرف)].
3) تسخير الكائنات: قال الله تعالى:{ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ . وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ . وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }. [النحل:7,6,5].
فمن رحمته سبحانه وتعالى أن علَّمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا، وبرحمته أطلع الشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض وجعلها مهاداً وفراشاً وقراراً وكفاتاً للأحياء والأموات، وبرحمته خلق لنا الفواكه والأقوات والمرعى، وبهذه الرحمة قوام العالم ونظامه.
4) رفع البلاء: قال الله تعالى:{ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ }. [الروم:33].
(( قوله تعالى :{ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ } أي قحط وشدة. { دَعَوْا رَبَّهُم } أن يرفع ذلك عنهم. { مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } قال ابن عباس : مقبلين عليه بكل قلوبهم لا يشركون. ومعنى هذا الكلام التعجب, عجب نبيه من المشركين في ترك الإنابة إلى الله تعالى مع تتابع الحجج عليهم, أي إذا مس هؤلاء الكفار ضر من مرض وشدة دعوا ربهم أي استغاثوا به في كشف ما نزل بهم مقبلين عليه وحده دون الأصنام لعلمهم بأنه لا فرج عندها. { ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَة ً} أي عافية ونعمة. { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ }. أي يشركون به في العبادة )).[الجامع لأحكام القرآن 14/33].
5) قبول التوبة: قال الله تعالى:{ وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }. [الأنعام:54].
ومن رحمته أحوج الخلق بعضهم إلى بعض ،لتتم مصالحهم ،وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغني والفقير والعزيز والذليل والعاجز والقادر والراعي والمرعى ثم أفقر الجميع إليه، ثم عم الجميع برحمته، ومن رحمته أنه خلق مئة رحمة، كل رحمة فيها طباق ما بين السماء والأرض، فأنزل منها إلى الأرض رحمة واحدة، نشرها بين الخليقة ليتراحموا بها، فيها تعطف الوالدة على ولدها، والطير والوحش والبهائم، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه ،وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة. ومن رحمته أنه يعيذ من سخطه برضاه، ومن عقوبته بعفوه، ومن نفسه بنفسه.
ب. طرق نوال رحمة الله:
1) بالطاعة: قال الله تعالى:{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }. [آل عمران:132].
قال الله تعالى:{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا }. [النساء:175].
2) بالصبر: قال الله تعالى:{ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ . أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }. [البقرة:157,156].
قال الله تعالى:{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }. [النحل:110].
3) بالجهاد في سبيل الله: قال الله تعالى:{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ . يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ }. [التوبة:21,20].
2. الإبتعاد عن كل ما يغضب الله, فالله يمهل ولا يهمل.
أ. إتقاء غضب الله:
قال الله تعالى:{ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }. [آل عمران:162].
ب. وقوع غضب الله:
1) على القاتل: قال الله تعالى:{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا }. [النساء:93].
2) على الكافر: قال الله تعالى: { بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ }. [البقرة:90].
3) على المتولي يوم الزحف: قال الله تعالى:{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }. [الأنفال:16].
4) على اليهود: قال الله تعالى:{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ }. [المائدة:60].
3. رحمة الله وغضبه صفتان راجعتان إلى إرادة عقوبة العاصي وإثابة المطيع, وصفاته تعالى لا توصف بغلبة إحداهما للأخرى وإنما هو على سبيل المجاز للمبالغة.
4.حلم الله تعالى, وأنه عفو يحب العفو, وأنه ذو الصفح والأناة الذي لا يُعجّل بالعقوبة مع القدرة على العقوبة والحرمان من النعم؛ لعل عباده يستغفرونه ويتوبون إليه ويعودون إلى حِمى قابل التوبة وغافر الذنب