خطبة الجمعة بتاريخ 2/3/2012
في جامع العثمان بدمشق
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله وصفيُّه وخليلُه. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على هذا النبيّ الكريم، صلاة تنحلُّ بها العقد وتنفرجُ بها الكرب، وتُقْضى بها الحوائج وتُنال بها الرغائب وحُسن الخواتيم، ويُستقى الغمام بوجهه الكريم، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً..
أما بعدُ فيا عباد الله: أُوصي نفسي وإيَّاكم بتقوى الله تعالى.. وأحثُّكم على طاعته والتمسُّك بكتابه، والالتزام بسنَّة نبيّه سيدنا محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلَّم ومنهاجه إلى يوم الدين..
يقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾[1].
أيها الإخوة المؤمنون:إن الله سبحانه وتعالى يبتلي العبد المؤمن، يبتليه بالنعم كما يبتليه بالنقم، ولذلك فإن البلاء والابتلاء بمعنىً واحد، ألا وهو الاختبار والامتحان، وإن كان بعض أهل العلم قال: إن البلاء يكون في النعم، وإن الابتلاء يكون في النقم، وإن البلاء يقتضي الشكر، وإن الابتلاء يقتضي الصبر، إلا أن النتيجة واحدة ، ألا وهي أن الله سبحانه وتعالى يختبر إيمان المؤمنين، وصدق الصادقين وصبر الصابرين وجهاد المجاهدين، كما يختبر المنافقين والذي يدّعون غير ما يبطنون. وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ، فالخوف مما سيتلى به الإنسان المؤمن ، خوفه من العدو، خوفه من الحيوان المفترس، خوفه من المجهول والضلال والمستقبل ونحو ذلك. وكذلك الْجُوعِ: والجوع لباس خطير إذا ألمّ بإنسان مؤمن فلربّما يصبر وربّما لا يصبر. وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِونقص الثمرات وقتل الأنفس ، كل ذلك من أنواع البلاء والابتلاء التي يختبر بها الله تعالى إيمان المؤمن وصدقه، من كذب المنافق وغشه.. وهذا الابتلاء - أيها الإخوة - جعله الله سبحانه وتعالى سنةً في الكون، سنةً يختبر الله تعالى بها حتى الأنبياء كما ورد في الحديث لما سُئِل رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم عن أشد الناس بلاءً ، فقال: "أشد الناس بلاءً الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل.. يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإذا كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإذا كان في دينه رقةٌ ابتلاه الله تعالى حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطية".
نعم أيها الإخوة: الأنبياء أشد الناس بلاءً وأعظم ابتلاءً:
سيدنا ابراهيم عليه الصلاة والسلام ابتُلِي بأبيه فكان من خير المؤمنين، وابتُلِي بنار النمرود ، فقُذف فيها وهذه فتنة عظيمة، وصبر سيدنا ابراهيم على بلاء الله له فكانت النار برداً وسلاماً عليه.
سيدنا لوط ابتُلِي بزوجته وابتُلِي بقومه .
سيدنا أيوب ابتُلِي بالمرض الشديد وابتُلِي بابتعاد الناس عنه.
سيدنا يوسُف ابتُلِي بالحسد من إخوته وألقي في البئر وابتُلِي ابتلاءات كثيرة ومنها السجن وامرأة العزيز.
وسيدنا موسى عليه السلام ابتُلِي ابتلاءات كثيرة ، ومنها أنه ابتُلِي بأن أبُعِد عن أمه وقُذِف في اليمِّ وهو صغير، أحوج ما يكون إلى ثدي أمه وإلى حنان أمه وابتُلِي بفرعون وابتُلِي بالسحرة.
وسيدنا محمد صلَّى الله عليهِ وسلَّم عانى ما عانى، وقاسى ما قاسى من أنواع البلاء والامتحان و الشدة فكان عليه الصلاة والسلام يواجه أهله الذين أخرجوه وطردوه وكذبوه ولم يؤمنوا به. فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أن صبر وواجه هذا البلاء بصبرٍ عظيم ، فتحولت المحن والشدائد عليه منحاً وعطاءاتٍ ونعماً من الله سبحانه وتعالى.
أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.. أي الأصلح فالأصلح ، والأحسن فالأحسن فإذا كان الرجل شديداً في دينه قوياً اشتد بلاؤه، وواجه ذلك البلاء بالصبر، وواجه النقم والشدائد التي تعترضه بالحلم والرضا بما قسم الله له وبما قدّر الله عليه، فكان ثوايه عظيماً ، أولئك هم المهتدون. واجه تلك المحنة والمصيبة التي ابتُلِي به بقوله إنا لله ابتداءً وإنا إليه راجعون انتهاءً ، وما بين البداية والنهاية يعيش المؤمن تحت رحمة الله سبحانه وتعالى..
جاء في الحديث أن سيدنا محمد صلَّى الله عليهِ وسلَّم قال: والحديث ترويه أم سلمة رضي الله عنها وذلك بعد أن فقدت زوجها الذي استشهد في سبيل الله سبحانه وتعالى: "مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ : {إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} اللَّهُمَّ اُؤْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا , إلَّا آجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا". أي اللهم أعطني أجراً على صبري في مصيبتي، وأخلف لي خيراً ، أي : أعطني خيراً منها وأبدلني خيراً منها. ما قال مؤمنٌ هذا القول، وما دعا بهذا الدعاء إلا أبدله الله خيراً من مصيبته وأعطاه بدلاً من المحنة التي وقع فيها منحةً عظيمة وعطاء عظيماً من الله تعالى .
ولننظر أيها الإخوة في موقف السيدة أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها وهي التي كان تعلقها بزوجها تعلقاً عظيماً ، فقد كان أبو سلمة شاباً قوياً جلداً مجاهداً شديداً، فلمّا استُشهد بكت عليه حتى اسودت مآقيها من الدم، ولما رآها رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم وعلّمها هذا الدعاء، قال قولي : "اللَّهُمَّ اُؤْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا" فقالت: يا رسول الله ومن خيرٌ من أبي سلمة ؟ إلا أنها لم يكن لها بدٌّ من أن تطيع رسول الله، وهي المؤمنة العابدة القانتة، فقالت مثلما علمها رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم: "{إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} اللَّهُمَّ اُؤْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا" فتزوجها فيما بعد سيدنا رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم. وبعد أن بنى فيها وتعرفت على أخلاق سيدنا رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم وأصبحت أما من أمهات المؤمنين، قال لها النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم ذات يوم: هل أبدلكِ الله خيراً من أبي سلمة ؟ فقالت: ومن خيرٌ منك يارسول الله؟ إن رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم هو الخير كله. ومن خيرٌ من رسول الله ؟ أجل أيها الإخوة هكذا ينبغي أن يكون حال المؤمن في مواجهة البلاء وفي مواجهة المصائب والشدائد: أن يكون راضياً بقضاء الله تعالى وأن ينتظر الفرج من الله ، فإن الله تعالى حاشا أن يضيع عبداً تبتل من أجله و انقطع ، وسأله أن يعوضه عن تلك المصيبة خيراً ، فإن الله سبحانه وتعالى يلبي نداء المظلومين، ويلبي نداء الذين يبتهلون إليه في جُنح الليل ويطلبون منه سبحانه و تعالى فرجاً عاجلاً.
جاء عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يروي عن سيدنا رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم أنه قال : "من استرجع عند المصيبة (أي من قال إنا لله وإنا إليه راجعون) جَبَرَ الله مصيبته" وتقال كلمة "جَبْر" للجبر بعد الكسر ، فبعد أن يكسر الإنسان بمصيبة ما ويمتحن يجبر الله مصيبته ،كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : "جبر الله مصيبته وأحسن عاقبته وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه" . أي عوّض الله له أمراً يرضى به، يرضيه الله تعالى بما قسم له ولو كان شديداً مراً قاسياً ويقنعه الله تعالى بأن ما أعد له هو خير وأعظم.
يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ما أصابتني مصيبة إلا وجدت فيها ثلاث نعم: أولها : أنها لما تكن في ديني (الحمد لله أن المصيبة لم تكن في الدين: فإذا كانت المصيبة في الدنيا، في المال في الولد في كل شيء ، فإن الله تعالى يجبرها ويعوضها . أما إذا كانت المصيبة بالدين والعياذ بالله كفراً وعناداً وتجبراً على الله فهذه أعظم مصيبة يبتلى بها الإنسان). والثانية أنها لم تكن أعظم ( فما من مصيبة عظيمة إلا وهناك أعظم منها ) والثالثة أن الله تعالى يجازي بها الجزاء الكبير (يجازي على هذه المصيبة التي يبتلي بها عبده المؤمن ثم يصبر المؤمن على تلك المصيبة يجازيه جزاءً كبيراً) وتلا سيدنا عمر((أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)) أي : رضاً من الله ومغفرة من الله ، لأولئك الذين ابتلوا بمصيبة ما ، فصبروا عليها وثبتوا على ما قسم الله لهم وعلى ما قدر، وجعلوا هذا الأمر بيد الله تعالى ،أن ينتظروا من الله الفرج، وينتظروا من الله العطاء ، وينتظروا من الله المنحة بعد تلك المحنة .
أيها الإخوة المؤمنون: الابتلاء سنةٌ في هذا الكون ، ولكن بعض الابتلاءات ربما كانت بسبب ما يقترفه الإنسان.. إن بعض الابتلاءات و المصائب التي تقع في دنيانا إنما تكون بسبب من شرور أنفسنا، بسبب من بعدنا عن كتاب ربنا وسنة نبينا صلَّى الله عليهِ وسلَّم .
يقول الله تعالى في كتابه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[2]
فقد تكون بعض المصائب التي نُبتلى بها بسببٍ من ذنوبنا ، وما أكثر المصائب العامة التي تعم الناس جميعاً بسبب المجاهرة في العصيان، و بسبب تحدي الله سبحانه وتعالى ، وبسبب البعد عن الدين. فهذه هي الأرض انظروا إلى المصائب التي فيها من القحط إلى الجفاف، من السيول إلى الفيضانات، من الزلازل إلى البراكين، من هذه الكوارث التي نسمع عنها بين الحين والآخر. انظروا إلى المصائب التي تعمُّ العالم بأسره كالخوف والجوع مثلاً، كالفاقة والفقر الذي يلم بكثير من دول العالم، إنما يكون مثل هذه المصائب إذا عمت بسبب ذنوبنا وما كسبت أيدينا. قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾[3]
يعفو الله سبحانه.. لو أراد الله تعالى أن يؤاخذنا على ذنوبنا ومعاصينا و تقصيرنا ، لما ترك على ظهر الأرض دابةً وما ترك عليها مخلوقاً ولما سقى كافراً جرعة ماء في هذه الدنيا. قال الله سبحانه وتعالى ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّـهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَـٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[4] وهذا معنى قول الله تعالى إن الله يمهل ولا يهمل، لا يضيع شيء في ميزان الله سبحانه وتعالى. لكن الله يمهل للظالم، يمهل العاصي، فربما يتوب ويرجع وربما يرتدع عن ظلمه وجبروته وقسوته، وربما يزداد طغياناً ليذيقه الله سبحانه وتعالى شر مهلكة. أما المؤمن الذي يرى في المصيبة انذاراً له في الرجوع إلى الله ، وتذكيراً له في التوبة الصادقة، وإعلان توبته بين يدي الله سبحانه وتعالى، فقد تكون تلك المصيبة بمثابة محرك لقلبه.
أسأل الله تعالى أن ينجينا من المصائب ، وأن يبعد عنا الهموم والغموم وأن ينجينا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين..