الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وابتغُوا إليه الوسيلة، وراقِبوه، وأنيبُوا إليه، وتوكَّلُوا عليه، واذكروا وقوفَكم بين يديه، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34-37].
أيها المسلمون، عندما ينزل البلاء، وتحُلُّ المِحَن، وتُحدِقُ الخُطوب، تطيشُ أحلامُ فريقٍ من الناس، فيُذهِلُهم ما نزل بهم عن كثيرٍ من الحق الذي يعلمون، فتقعُ الحيرةُ، ويثورُ الشكُّ، وتُهجرُ الحقائق، وتُتَّبعُ الظُّنون، ويُحكَم على الأمور بغير علمٍ، ويُقضَى فيها بغير العدل، ويُنسَى أن سُنَّة الله في الابتلاء ماضيةٌ في خلقِه.
وهي سُنَّةٌ جاء حديثُ القرآن عنها جليًّا واضِحًا لا خفاء فيه، فقال ربُّنا سبحانه: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت: 1-3]، وقال عز وجل: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186]، وقال عزَّ اسمُه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155-157].
إنها -يا عباد الله- سُنَّةٌ ربَّانيةٌ عامَّة، لم يستثنِ الله منها أنبياءَه ورُسُلَه مع علُوِّ كعبِهم، ورِفعة مقامِهم، وشرفِ منزلتِهم، وكرمِهم على ربِّهم؛ بل جعلَهم أشدَّ الناس بلاءً، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" والترمذي والنسائي وابن ماجه في "سننهم" بإسنادٍ صحيحٍ عن سعد بن أبي وقاصٍ أنه قال: قلتُ: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: «أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثلُ فالأمثل، يُبتلَى الرجلُ على حسب دينِه؛ فإن كان في دينِه صُلبًا اشتدَّ بلاؤُه، وإن كان في دينِه رِقَّةٌ ابتُلِي على قدرِ دينِه، فما يبرَحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يتركَه يمشِي على الأرضِ وما عليه خطيئةٌ».
وقد نزل برسولِ الله من هذا البلاء أعظمُه، وحسبُكم ما نالَه من أذى قومِه، وتكذيبِهم له، واستِهزائِهم به، وصدِّهم الناس عن دينِه، وحملِهم له على مُفارقة وطنِه، وإعلان الحربِ عليه، وتأليبِ الناس عليه وعلى دعوتِه، وغزوِهم دار هجرته ومقرَّ أهلِه وصحابتِه؛ للقضاء عليه ووأد دينِه واستئصال شأْفَته، ومُمالأة أعدائِه من اليهود والمُنافقين في المدينة عليه، وكيد هؤلاء جميعًا له، ومكرهم به، ونقضِهم ميثاقَهم الذي واثقَهم به، والتحالُف مع المشركين على حربِه، وسعيِهم إلى قتلِه غِيلةً وغدرًا.
فكان صلوات الله وسلامُه عليه كمثل الذين سبَقوه على درب المِحن والابتلاء من النبيين، ثابتًا على المِحَن، صابِرًا على البلاء، مُجاهِدًا في الله حقَّ جِهادِه، حتى أتاه نصرُ الله ودخل الناسُ في دينِ الله أفواجًا، وأكمل الله الدين، وأتمَّ على عباده النعمة، وغمَرَت أنوارُ الهداية أقطارَ النفوس، وخالطَت بشاشةُ الإيمان القلوبَ. ولحِق النبي بربِّه راضِيًا، قريرَ العين، تارِكًا في أمته من بعده شيئين ما إن تمسَّكوا بهما لن يضِلُّوا أبدًا: كتاب الله، وسنَّته عليه الصلاة والسلام .
عباد الله، إن انتهاج هذا النَّهج في الصبر على البلاء والثبات للمِحَن، إنما هو لكمال اليقين بأن الله تعالى لم يكتُب على عباده البلاء إلا لحِكَم عظيمة ومقاصِد جليلة، تربُو على الحصر، وتجِلُّ على العدِّ.
وإن من أجلِّ ذلك -كما قال ابن القيم رحمه الله- أن يمتحِنَ الله صبرَ عبدِه، فيتبيَّن حينئذٍ صلاحُه لأن يكون من أوليائِه، وأن يُعدَّ من حزبِه، فإن ثبتَ للخُطوب وصبرَ على البلاء اصطفاه الله واجتباه، وخلعَ عليه خِلَع الإكرام، وألبَسَه ألبِسَة الفضل، وكساه حُلَل الأجر، وغشَّاه أغشِيَة القبول، وختمَ له بخاتمة الرِّضوان، وجعل أولياءَه وحزبَه خدمًا له وعونًا.
وإن انقلبَ على وجهِه، ونكصَ على عقِبَيه؛ طُرِد وأُقصِيَ، وحُجِب عنه الرِّضَا، وكُتِب عليه السَّخَط، وتضاعَفَت عليه أثقال البلاء، وهزمَتْه جيوش الشقاء، وهو لا يشعرُ في الحال بضعفٍ ولا بهزيمةٍ، لكنه يعلم بعد ذلك أن المُصيبةَ صارَت في حقِّه مصائب.
وما بين هاتين المنزلتَين -وهي منزلة الصبر ومنزلة السخَط- صبرُ ساعة، وتشجيعُ القلب في تلك الساعة، والمُصيبةُ لا بُدَّ أن تُقلِع عن هذا وهذا، ولكن تُقلِع عن هذا بأنواع الكرامات والخيرات، وعن الآخر بالحِرمان والخذلان؛ لأن ذلك تقديرُ العزيز العليم، وفضلُ الله يُؤتيه من يشاءُ، والله ذو الفضل العظيم، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجه في "سننهما" بإسنادٍ حسنٍ عن أنس بن مالك أنه قال: قال النبيُّ : «إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم؛ فمن رضِيَ فله الرِّضا، ومن سخِطَ فله السَّخَط».
فلا غرْوَ أن كان عطاءُ الصبر -يا عباد الله- خيرَ ما يُعطَى العبد، كما جاء في "الصحيحين" عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ أن رسولَ الله قال: «ما أُعطِيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر».
ألا وإن من أعظم حِكَم الابتلاء -يا عباد الله- تحقيقَ العبودية لله؛ فإن الله تعالى يُربِّي عبدَه على السرَّاء والضرَّاء، والنعمة والبلاء، حتى يستخرِجَ منه العبودية في جميع الأحوال؛ إذ العبدُ على الحقيقة هو القائِمُ بعبوديَّة الله على اختلاف أحوالِه.
أما عبدُ النعمة والسرَّاء الذي يعبُد الله على حرفٍ هو الشكُّ والقلقُ والتزلزلُ في الدين، أو على حالٍ واحدةٍ؛ فإن أصابَه خيرٌ اطمأنَّ به، وإن أصابَتْه فتنةٌ انقلَبَ على وجهِه، فهذا ليس من عبيدِه الذين اختارهم سبحانه لعبوديَّته، وشرَّفهم بها، ووعدَهم بحُسن العاقِبَة عليها.
ومن حِكَم الابتلاء أيضًا: أن تكون للعبد عند ربِّه منزلةٌ رفيعةٌ ومقامٌ كريمٌ، لا يبلُغها بأعماله؛ فيكون البلاء سببًا لبلوغه إياها، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة أنه قال: قال رسولُ الله : «إن الرجلَ ليكونُ له عند الله المنزِلة، فما يبلُغُها بعملٍ، فما يزالُ يبتَليه بما يكرَه حتى يُبلِّغَه إياها» أخرجه أبو يعلى في "مسنده" وابن حبان في "صحيحه" بإسنادٍ حسنٍ.
ولهذا كان الابتلاء من الخير الذي أرادَه الله بعبدِه وكتبَه له وإن لم يظهَر له ذلك، كما في حديث أبي هريرة أن رسولَ الله قال: «من يُرِد الله به خيرًا يُصِب منه» أي: يُنزِل به مُصيبة ويبتلِيه ببلاءٍ. أخرجه البخاري في "صحيحه".
فالابتلاء -أيها الإخوة- كِيرُ القلوب، ومِحكُّ الإيمان، وآيةُ الإخلاص، وشاهد الإذعان، ودليلُ التسليم لله رب العالمين، وهو كالدواء النافع يسوقُه إلى المريض طبيبٌ رحيمٌ به، ناصحٌ له، عليمٌ بمصلحته. فحقُّ المريض العاقل الصبرُ على تجرُّع صابِه وعلقمِه، وأن لا يتقيَّأه بالسَّخَط والشكوى.
ألا فبُشرى ثم بُشرى لأولئك الذين نزل بساحتِهم البلاء من أهل الإسلام في فلسطين، وسورية، وبورما، وإفريقيا الوسطى، وغيرها، فأُخرِجوا من ديارهم وأموالهم، واستُبيحَت حُرماتُهم، وضاقَت عليهم الأرضُ بما رحُبَت؛ فإن عاقبةَ الله -إن شاء الله- هي منَّةُ الله بالنصر والتمكين في الدنيا، ونزول رفيع الجِنان في الآخرة، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19].
نفعني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه ، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافَّة المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ.
أما بعد: فيا عباد الله، إن للثبات عند نزول البلاء ووقوع المِحَن أسبابًا تُعين عليه، وتُذلِّلُ السبيل إليه، ومن أعظمها: صِدقُ اللُّجوء إلى الله تعالى، وكمالُ التوكُّل عليه، وشدَّةُ الضراعة والإنابة إليه، وصِدقُ التوبة بهجر الخطايا والتجافِي عن الذنوب؛ فما نزل بلاءٌ إلا بذنبٍ، وما رُفِع إلا بتوبة. كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب .
ومنها: النظرُ في أخبار الذين نزل بهم البلاء، وألمَّت بهم المصائب؛ من الأنبياء والمُرسلين، وعباد الله المُخلَصين؛ للتعزِّي بأحوالهم، والتأسِّي بصبرِهم وتسليمِهم الذي كان ديدنَهم وهِجِّيراهم ودأبَهم ومنهاجهم عند نزول البلاء.
ومنها: تحسينُ الظنِّ بالإخوة في الدين، لا سيَّما منهم أهل العلم والفضل، بحمل أقوالهم وأعمالهم على أحسن المحامِل، وكذا الرجوع إلى الراسِخين في العلم باستِيضاح ما يُشكِل والسُّؤال عما يُجهَل.
ومنها: الحذرُ من الإعجابِ بالرأيِ، واجتِنابُ التعجُّل في إطلاق الأحكام، والمُسارعة إلى تعليل أو تفسير المواقِف باتباع الأهواء، أو بالوقوع تحت تأثير ما يُسمَّى بالتحليلات على اختلاف أنواعها وتعدُّد مصادرها؛ إذ هي قائمةٌ في الأعمِّ الأغلبِ على المصالِح والمطامِح والأهواء، فيقِلُّ فيها الصدقُ، ويكثُر الكذبُ والخطأ والظلمُ.
ومنها: تركُ القِيل والقال الذي كرِهَه الله لعباده، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن المُغيرة بن شعبة أن رسولَ الله قال: «إن الله تعالى حرَّم عليكم عقوقَ الأمهات، ووأد البنات، ومنعًا وهات، وكرِه لكم قِيل وقال، وكثرةَ السُّؤال، وإضاعةَ المال».
ويدخلُ فيه: التحديثُ بكل ما يسمعه المرءُ، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة أن النبي قال: «كفَى بالمرءِ إثمًا أن يُحدِّث بكل ما سمِع».
وإنه إذا كان حرِيًّا بالمسلم اتباعُ هذا المنهَج الراشِد في كل حين؛ فإن اتباعَه في أوقات المِحَن ونزول البلاء أشدُّ تأكُّدًا وأعظمُ وجوبًا.
فاتقوا الله عباد الله، وسَلُوا الله العافية من كل بلاءٍ، واشكرُوه على السرَّاء والضرَّاء.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتم الرسل والأنبياء...