أضل الناس
الحمد لله على إحسانه أن بلغنا مواسم الخير والبركات، ومضاعفة الأجور والحسنات، والشكر له أن وفقنا وامتنَّ علينا بفعل الطاعات بأفضل الأوقات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد البريات، صلى الله عليه وآله وصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أحبتي: هكذا المواسم تبدأ ونرى أن فيها مهلة، وما نشعر إلا وقد انقضت وذهبت، فالسعيد منا من بادر وعمل، أما من فرط وندم فذاك له نصيب من الخير إن شاء الله، أما من مرّت به الأيام الفاضلة ولم يشعر بها فنسأل الله أن يفتح على قلبه أبواب الخير ويجنبه الغفلة والتفريط.
أيها الأحبة: أي أيام عظام قد تولّت عنا، هل وعينا فضلها ثم عملنا؟! أم أننا قصرنا وتهاوننا؟! أسأل الله أن يعفو عنا.
نعم، لقد وفق الله أناسًا لطاعتِه واستثمارِ أفضل أيام الدنيا بالطاعة والتقرب إليه بأفضل الأعمال البدنية والمالية؛ فحازوا أعلى الدرجات، وحري بكل مسلم عمل في أفضل أيام الدنيا بأفضل الأعمال البدنية أن يتفطن لأفضل الأعمال القلبية التي نغفل عنها وينسينا الشيطان فضلها وقيمتها، بل إن هذه الأعمال تُبوئ الإنسان أعلى المراتب ليكون أفضل الناس؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟! قَالَ: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ"، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟! قَالَ: "هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لا إِثْمَ فِيهِ وَلا بَغْيَ وَلا غِلَّ وَلا حَسَدَ". رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
أيها الإخوة: ما أعظم السؤال!! وما أدق الجواب!! لقد وصفَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجوابه هذا أفضل الناس وصفًا دقيقًا، وصوره بصورةٍ بينة واضحة لمن أراد أن يرتقي إلى هذه المرتبة السامية.
نعم -أيها الأحبة- إن مرتبة أفضلِ الناسِ لا يحوزها أحدٌ لشريف نسبه، أو لعظيم حسبه، ولا تشترى بالمال، ولا بكثرة الأعمال البدنية والمالية، وإنما يحوزها الموفقون بالمجاهدة والمصابرة، وتتحقق للموفقين الذين اتصفوا بالصفات التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث.
أول الصفات: مخموم القلب، فما مخموم القلب؟! قال في النهاية في غريب الأثر: هُو مِنْ خَمَمْتُ البَيْت إذا كنَسْتَه، أي يكون القلب نظيفًا صافيًا كالزجاجة، يزيل ما علق به من الأدران أولاً بأول، مثلما تكنس البيت وتزيل ما به من قمامة. ثم بيّن -صلوات ربي وسلامه عليه- نظافته مما تكون فقَالَ: "هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لا إِثْمَ فِيهِ وَلا بَغْيَ وَلا غِلَّ وَلا حَسَدَ".
نظيف القلب أو مخمومه يجب أن يكون تقيًّا، والتقوى حقيقتها: اتخاذ ما يقي سخطَ اللهِ وعذابه، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والنقي الصافي من أدران القلوب، وهو الذي لا إِثْمَ فِيهِ وَلا بَغْيَ وَلا غِلَّ وَلا حَسَدَ.
قوله: "وَلا غِلَّ"، قال القرطبيّ: الغلُّ: هو الحِقْد الكامن في الصّدر، وقيل الضِّغْنُ: وهو الحقد والعداوة والبغضاء... وعدّه العزّ بن عبد السّلام -رحمه الله- من المنهيّات الباطنة، مستدلاً بقوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) [الحشر:10]، أي أزل الحقد عن قلوبنا لإخواننا المؤمنين. وعن الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:" دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ، لا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ؟! أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ". رواه الترمذي وحسنه الألباني.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو ويقول: "واسلل سخيمة صدري"، أي غشه وحقده وغله.
أيها الأحبة: ومن صفات القلب المخموم أن يكون خاليًا من الحسد -وهو أن يكره الإنسان ما أنعم الله به على غيره من علم أو مال أو أهل أو جاه أو غير ذلك ويتمنى زوالها- وهو من كبائر الذنوب، ومن سمات اليهود والعياذ بالله، كما قال الله تعالى عنهم: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [البقرة:109] وقال تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، أي على ما أعطاهم من فضله: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) [النساء:54]، أي على ما أعطاهم من فضله.
وقد نهى عنه النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: "لا تَحَاسَدُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا". رواه مسلم عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-.
ومن صفات القلب المخموم أن يكون خاليًا من البغيِ -وهو مجاوزة الحد في الظلم والتعدي- وهو من الكبائر الباطنة التي يجب على المكلّف معرفتها ليعالج زوالها، وقد نهى الله عنه فقال: (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ) [الأعراف:33]، وقال: (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) [النحل:90]، وقد نهى عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقَالَ: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ". أخرجه أبو داود والترمذي. عن أبي بكرة وزاد رزين: "وذلك لأن الله تعالى يقول: (إِنَّمَا بغْيُكم على أنفسكم) [ يونس :23]"، وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ خَطِيبًا فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلا يَبْغي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ". رواه مسلم وغيره. ويقول: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ، لا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ".
أيها الأحبة: إن تنقيةَ القلوبِ وتطهيرَها من هذه العلل يفضي إلى الوصولِ إلى مرتبةٍ عظمى هي مرتبة أفضل الناس، فلم يصف رسول الله أفضل الناس بأنه كثير الصيام أو الصلاة أو الجهاد أو غيرها من العبادات البدنية أو المالية الظاهرة، ولكنه أطلق أفضل الناس على من تميز بقلبٍ تقيٍّ نقيٍّ صافٍ وضيءٍ رقراق، بريءٍ من الإثمِ والبغيِ والغل والحسد، وهي التي أوصلتهُ إلى الرتبةٍ الشريفةٍ المنيفةٍ، وهي أن يكون أفضلَ الناس، وقلبَه أحبَّ القلوبِ إِلَى اللّهِ وأكثَرَهَا خيرًا، تنبعُ منهُ عيونُ الخيرِ، وتتفجرُ منهُ ينابيعُ البرِّ، ونعم اللّهِ تغشاهُ عَلَى الدَّوَامِ. نسأل الله أن يبلغنا ذلك إنه جواد كريم.
الخطبة الثانية:
أيها الأحبة: حقٌّ على كل مسلم قلبه مريض بهذه الأدواء أنّ يطهر قلبه منها، ومن مات وقلبه مريض بها لم يلق الله -والعياذ بالله- بقلب سليم، ويذمُّ على هذا أعظمَ ممّا يذمُّ على الزّنا والسّرقةِ وغيرها من كبائر البدن، وذلك لعظيم مفسدتها وسوء أثرها ودوامه، وإذا دامت هذه الكبائر في الإنسان وصارت حالاً وهيئةً راسخةً في القلبِ عرض نفسه للوعيد الوارد بكتاب الله القائل: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، بخلافِ آثار معاصي الجوارح التي تزول بالتّوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفّرة، ومن أراد أن يتبوأ منزلةَ أفضلِ الناس فلابد أن يتعبد لله بتطهيرِ قلبِه وتصفيةِ فؤادِه منها.
أيها الإخوة: ألسنا نرى من أنفسِنا أنا إذا وقعنا في معصية بدنية أو مالية ظاهرة استيقظ في قلوبنا التأنيب للفعل، وأحدثنا لذلك توبة واستغفارًا وندمًا!! لكن متى وقفنا مع أنفسِنا لنتفقدَ فيها خواطرَ العُجب، أو أدواءَ الحسد، أو آفة الغل والبغضاءِ والشحناء والبغي.
من هو الذي وقفَ منا مع نفسِه معنفًا لها لأنَه أحسَ بالبغضاءِ تدبُّ في قلبِه لأحد إخوانه المسلمين؟! بل من هو الذي وقفَ مع نفسِه محذرًا لها لأن الحسدَ تحركَ بين جوانِحه؟! ومن الذي وقفَ منا مع نفسِه مذعورًا لأنه شعر بالبغي على أخيه أو أُشعر به؟!
أحبتي: المشكلة أن الإنسانَ يتآلفُ مع هذه الخطايا والأمراض فلا يتفقدُها في نفسِه، بل ربما تضاعفَت المصيبة إذا برّر الإنسان لنفسه هذه الخطايا وهذه الأمراض، وما أيسرَ ذلك على صاحبِ الهوى أن يصطنعَ المعاذيرَ لنفسِه، ويفتحَ لها سُبلَ التهربِ، ويروج على نفسِه وعلى من حوله هالةً من الضبابِ تسترُ عن نفسِه أولاً وعمن حولَه خبيئتَه.
ثم تأتي مشكلةٌ أخرى وهي أن المصابَ بهذه الأدواء يتآلفُ معها، فهي تنمو وتتضاعف دون أن يحس ذلك من نفسِه، بل دون أن يؤنبَ نفسَه عليها.
إن الأمرَ الذي ينبغي أن نعيَه هو أننا بأشد الضرورةِ إلى تفقدِ خطراتِ القلوب وتصفيتِها، وأن يعلمَ كلٌّ منا أنه متى دب إلى قلبِه شيءٌ من هذه العلل فإن معنى ذلك أن النارَ تشتعلُ في ثيابِه وتوشكُ أن تُحرقَ بدنَه، ولذا فإن البحثَ عن أسبابِ تزكيةِ القلوبِ وتطهيرِها أمرٌ ينبغي أن نجدَ في طلبه ونسعى إليه.
أحبتي: فلنفترق، على عهدٍ بيننا وبين أنفسنا بأن نتفقدَ خطايا قلوبنا، ونواصلَ تطهيرَ نفوسِنا منها، ونحرس قلوبنا من هذه الخطايا أن تدبَ إليها، أو تنمو فيها؛ لنفوزَ بمرتبة أفضل الناس. اللهم أعنا على ذلك.