الحمد لله الذي خلق السموات والأرض بالحقِّ، ولِتُجْزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلَق الثَّقَليْن الجنَّ والإنسَ لِغايةٍ تُراد منهم، وهي أن يعرفوه ويعبدوه وحده: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذّاريَات:56]، وغاية تراد بهم، وهي الجزاء بالعدل والفضل (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النّجْم:31].
وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله وخليله، لا خير إلا دلَّ الأمةَ عليه، ولا شَرَّ إلا حذَّرَها عنه. فَصَلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فيا عباد الله: روى النسائي، عن عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبيده عصى، وقد علَّق رجل قنوًا من حشف، فجعل يطعن في ذلك القنو، فقال: "لو شاء ربُّ هذه الصدقة تصدَّقَ بأطيب من هذا، إن رب هذه الصدقة يأكل حشَفًا يوم القيامة" أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن جزاءه يكون من جنس عمله، فيُجزَى على تلك الصدقة بحشف من جنسها.
ولهذا سُمِّي يومُ القيامة يومَ الجزاء، ويوم المعاد؛ فإن العبد يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه، ويعود عليه عمله بعينه فينعم به ظاهرًا وباطنًا، أو يُعذَّب به ظاهرًا وباطنًا، فيورثه عملُه الصالحُ من الفرح والسرور واللذة والبهجة وقرة العين والنعيم في قلبه، وينشأ له من أعماله ما تشتهيه نفسه، وتلَذُّه عيُنه، من سائر المشتهَيَات؛ ويكون تنوُّعُ تلك المشتهيات وكمالها وبلوغها مرتبة الحُسْنِ والموافقةِ بحسب كمال عمله، ومتابعته فيه، وإخلاصه، وبلوغه مرتبة الإحسان فيه؛ فمَن تنوعت أعماله المرضية لله، المحبوبة له في هذه الدار، تنوَّعَت الأقسام التي يتلذذ بها في تلك الدار، وتكثَّرَتْ له بحسب تكثُّرِ أعماله هنا، وكان مزيده من تنوعها، والابتهاج بها، والالتذاذ بنيلها هناك، على حسب مزيده من الأعمال، وتنوعه فيها في هذه الدار؛ فليست لَذَّةُ من ضرب في كل مرضاة لله بسهم، وأخذ منها بنصيب، كلذة من أنهى سهمه ونصيبه في نوع واحد منها؛ فلَذَّاتُ أهل الجنة وما فيها من الطيبات أنواع.
وكذلك تنوَّعَتْ آلامُ أهلِ النار، فليس ألمُ مَن ضَرَب في كل مسخوط لله بنصيب، وعقوبته، كألم من ضرَب بسهم في مساخطه.
فالناس يتفاوتون في أحوال المعاد وما يجري فيه من الأمور المتنوعة، فمنها خِفَّةُ حَمل العبد على ظهره وثِقَلُه إذا قام من قبره؛ فإنه بحسب خفة وزره وثقله، إنْ خَفَّ خَفَّ، وإن ثَقُلَ ثَقُل؛ ومنها استظلاله بظل العرش أو ضحاؤه للشمس والحَرِّ، فإن كان له من الأعمال الصالحة والخالصة والإيمان ما يظله في هذه الدار من حَرِّ الشِّرْك والمعاصي والظلم، استظل هناك في ظل أعماله تحت عرش الرحمن؛ وإن كان ضاحيًا هنا للمناهي والمخالفات والبدع والفجور، ضَحَا هناك للحر الشديد.
ومنها طول وقوفه في الموقف، ومشقَّته عليه، وتهوينه عليه. إن طال وقوفه في الصلاة ليلاً ونهارًا لله، وتحمل لأجله المشاقَّ في مرضاته وطاعته، خفَّ عليه الوقوف في ذلك اليوم، وسهُل عليه؛ وإن آثر الراحة هنا والدَّعَة والبطالة والنعمة، طال عليه الوقوف هناك، واشتدت مشقته عليه، وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا) [الإنسان:23-27]. فمن سبَّح الله ليلاً طويلاً، لم يكن ذلك اليوم ثقيلاً عليه؛ بل كان أخفَّ شيء عليه.
ومنها ثِقَلُ ميزانه هناك، بحسب تحمُّلِهِ ثِقَل الحقِّ في هذه الدار، لا بحسب مجرد كثرة الأعمال؛ وإنما يثقل الميزان باتباع الحق والصبر عليه، وبَذْله إذا سئل، وأخذه إذا بُذل، كما قال الصديق لعمر -رضي الله عنهما-: واعلم أن لله حقًا بالليل لا يقبله بالنهار، وله حق بالنهار لا يقبله بالليل، واعلم أنه إنما ثقُلت موازين من ثقلت موازينه باتبِّاعهم الحق، وثقُل ذلك عليهم في دار الدنيا، وحقَّ لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلاً. وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في دار الدنيا وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا باطل أن يكون خفيفًا.
ومنها أنَّ ورود الناس الحوض وشربَهم منه يوم العطش الأكبر بحسب ورودهم سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشربهم منها، فمن وردها في هذه الدار، وشرب منها، وتضلع، ورَدَ هناك حوضه، وشرب منه، وتضلع؛ فله -صلى الله عليه وسلم- حوضان عظيمان: حوض في الدنيا، وهو سنته وما جاء به، وحوض في الآخرة؛ فالشاربون من هذا الحوض في الدنيا هم الشاربون من حوضه يوم القيامة، فشارِبٌ ومحروم، ومُسْتقِلٌّ ومستكثِر.
والذين يذودهم هو والملائكة عن حوضه يوم القيامة هم الذين كانوا يذودون أنفسهم وأتباعهم عن سنته، ويؤثرون عليها غيرها، فمن ظمئ من سنته في هذه الدنيا ولم يكن له منها شرب فهو في الآخرة أشدُّ ظمأً، وأحرُّ كبدًا، وإن الرجل ليلقى الرجل فيقول: يا فلان! أشرِبْتَ؟ فيقول: نعم والله. فيقول: لكني والله ما شربت، وا عطشاه!.
ومنها قسمة الأنوار في الظلمة دون الجسر، فإن العبد يُعطَى من النور هناك بحسب قوة نور إيمانه ويقينه وإخلاصه، ومتابعته للرسول في دار الدنيا، فمنهم من يكون نوره كالشمس، ودون ذلك كالقمر، ودونه كأشد كوكب في السماء إضاءةً، ومنهم من يكون نوره كالسراج في قوته وضعفه، وما بين ذلك.
ومنهم من يعطى نورًا على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفئ أخرى بحسب ما كان معه من نور الإيمان في دار الدنيا ولما كان المنافق في الدنيا قد حصل له نور ظاهر غير مستمر ولا متصل بباطنه ولا له مادة من الإيمان أعطى في الآخرة نورًا ظاهرًا لا مادة له ثم يطفئ عنه أحوج ما كان إليه.
ومنها أن مشيهم على الصراط في السرعة والبطء بحسب سرعة سيرهم وبطئه على صراط الله المستقيم في الدنيا، فأسرعهم سيرًا هنا أسرعهم هناك، وأبطؤهم هنا أبطؤهم هناك، وأشهدُهم ثباتًا على الصراط المستقيم هنا أثبتهم هناك؟.
ومن خطفته كلاليب الشهوات والشبهات والبدع المضلة هنا خطفته الكلاليب التي كأنها شوك السعدان هناك، ويكون تأثير الكلاليب فيه هناك على حسب تأثير كلاليب الشهوات والشبهات والبدع فيه هنا، فناجٍ مسلّم، ومخذول -أي: مقطع بالكلاليب- مكردس في النار، كما أثرت فيهم تلك الكلاليب في الدنيا (جَزَاءً وِفَاقًا) [النبأ:26]، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فُصّلَت:146].
ومن كان مستوحشًا مع الله بمعصيته إياه في هذه، الدار فوحشته معه في البرزخ ويوم المعاد أعظم وأشد (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) [الإسرَاء:72] (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) [مريَم:76].
فأوصيكم وإياي -عباد الله- بالتقوى، وأن نحاسَب أنفسنا قبل أن نحاسَب، ونزنها قبل أن نوزن، وأن نتأهب للعرض الأكبر على الله الذي لا تخفى عليه خافية. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم:71-72].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الشافع المشفع في يوم المحشر. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم على الأثر.
أما بعد: فيا عباد الله: روى مسلم في صحيحه، عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- يُسأل عن الورود في قوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) [مريَم:71] فقال: "نجيء نحن يوم القيامة على كُوْم فوق الناس، قال: فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد: الأول، فالأول؛ ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا. فيقول: أنا ربكم، فيقولون حتى ننظر إليك. فيتجلى لهم يضحك، قال: فينطلق بهم فيتبعونه، ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورًا ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ مَن شاء الله، ثم يطفأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون، فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر، سبعون ألف لا يحاسَبون، ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء، ثم كذلك، ثم تحل الشفاعة، ويشفعون، حتى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، فيجعلون بفناء الجنة، ويَجْعَلُ أهل الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبتوا نبات الشيء في السيل ويذهب حُرَاقُهُ، ثم يَسْأَل حتى يَجْعَل لَه الدنيا وعشرة أمثالها معها".
فتنبهوا عباد الله لما أمامنا: في البرزخ، وفي القيامة، وفي داري الجزاء، وتفكروا في معاني هذا الحديث، وانظروا معاملة الله -سبحانه وتعالى- لأهل توحيده الذين عبدوه وحده ولم يشركوا به شيئًا هذه المعاملة، ومعاملته أهل الشرك به، حيث ذهبت كل أمة مع معبودها فانطلق بها واتَّبعته إلى النار، وانطلق المعبود الحق واتَّبعه أولياؤه وعابدوه، فسبحان الله رب العالمين، الذي قرت عيون أهل التوحيد به في الدنيا والآخرة، وفارقوا الناس فيه أحوج ما كانوا إليهم.
إن أحسن الحديث ...