8- مشروعيةُ صلاةِ التراويح
عن عبدِالرَّحمنِ بنِ عبدٍ القَارِئ رَحِمه الله تعالى أنه قَالَ: «خَرَجتُ مع عُمرَ ابن الخطَّاب لَيلَةً في رَمَضَانَ إلى المسجدِ، فإذا النَّاسُ أوزاعٌ مُتَفَرِّقونَ يُصلِّي الرَّجلُ لِنَفْسِهِ، ويُصَلِّي الرَّجلُ فَيُصَلِّي بِصَلاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمرُ: إنِّي أَرَى لَو جَمعتُ هَؤلاءِ على قَارِئٍ وَاحِدٍ لكَانَ أَمثَلَ، ثم عَزَمَ فَجَمَعهُم على أُبَيِّ بِنِ كَعبٍ، ثمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيلَةً أُخْرَى والنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ قَارِئِهم، قَالَ عُمَرُ: نِعْمَ البِدْعَةُ هذهِ، والتي يَنَامُونَ عنْهَا أَفضَلُ مَنَ الَّتي يَقُومُونَ، يُرِيدُ آخِرَ اللَّيلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَه» رواه البخاري( ) .
وفي رِوايةٍ لمالكٍ: «أنَّ عُمرَ بنَ الخطَّابِ أَمَرَ أُبَيَّ بن كَعبٍ وتَميماً الدَّاريَّ أنْ يَقُومَا بالنَّاسِ بإِحدَى عَشَرَةَ رَكعَةٍ، قال: وَقد كانَ القَارئُ يَقَرَأُ بالمَئِينِ، حتَّى كنَّا نَعتَمِدُ على العِصيِّ من طُولِ القِيامِ، وما كنَّا نَنْصَرفُ إلا في فُرُوعِ الفَجْرِ»( ).
وفي رِوايةٍ لابنِ خُزَيْمَةَ: فَقَالَ عُمَرُ : «والله إِنِّي أَظُنُّ لَو جَمَعْنَا هَؤُلاءِ على قَارِئ واحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُم عَزَمَ عُمَرُ على ذَلك، وأَمَرَ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ أَنْ يَقُومَ لهُم في رَمَضَانَ، فَخَرَجَ عُمَرُ عَلَيهِم والنَاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ قَارِئِهِم فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ البِدْعَةُ هِيَ، والَّتي تَنَامُونَ عَنْها أَفْضَلُ مِنَ الَّتي تَقُومُونَ – يُريدُ آخِرَ الَّليلِ – فَكَانَ النَاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَه، وَكَانُوا يَلْعَنُونَ الكَفَرَةَ في النِّصْفِ: الَّلهُمَّ قَاتِلْ الكَفَرَةَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِك، ويُكَذِّبونَ رُسُلَكَ، ولا يُؤْمِنُونَ بِوَعْدِك، وخَالِفْ بينَ كَلِمَتهِم، وأَلْقِ في قُلُوبِهِم الرُّعْبَ، وأَلْقِ عَلَيْهِم رِجْزَكَ وعَذَابَكَ إِلهَ الحَقِّ، ثُم يُصَلِّي عَلى النَّبيِّ ﷺ، ويَدْعُو لِلمُسْلِمينَ بما اسْتَطَاعَ مِنْ خَيرٍ، ثُم يَسْتَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنين، قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ لَعْنَةِ الكَفَرَةِ، وصَلاتِهِ على النَّبيِّ، واسْتِغْفَارِهِ للمُؤْمِنينَ والمؤْمِنَاتِ، ومَسْأَلَتِه: الَّلهُمَّ إِياكَ نَعْبُدُ، ولَكَ نُصَلِّي ونَسْجُدُ، وإِلَيكَ نَسْعَى ونَحْفِدُ، ونَرْجُو رَحمَتكَ رَبَّنا، ونَخَافُ عَذَابَكَ الجِدَّ، إِنَّ عَذَابكَ لمن عَادَيتَ مُلْحِق، ثُم يُكَبرُ ويَهْوي سَاجِداً»( ).
الفوائد والأحكام( ):
الأول: أنَّ صَلاةَ التَّراوِيحِ سُنةٌ سَنَّهَا النَّبيُّ ﷺ، ثمَّ تَرَكَهَا خَشْيَةَ أن تُفرَضَ على المُسلِمِين، وبَقِيَ النَّاسُ يُصلُّونَ مُتَفَرِّقينَ في عَهدِهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلام، وفي خِلافَةِ أَبِي بَكْر، فَلما كَانت خِلافَةُ عُمَرَ جَمَعَهُم على إِمَامٍ وَاحِدٍ، فَأَحيَا بِذَلك سُنَّةَ النَّبيِّ ﷺ، وقَدْ أَجْمعَ المسْلِمُونَ في زَمَنهِ وبَعْدَهُ عَلى اسْتِحْبابهَا( ).
الثاني: أَنَّ المفْضُولَ قَدْ يُحيي سُنَّةً، ويَأْتي بِفَضِيلَةٍ لم يَأْتِ بها مَنْ هُوَ أَفْضَلُ منه؛ كَما أَلهَمَ اللهُ تَعَالى عُمَرَ لإِحْياءِ هَذِهِ السُّنَّةِ العَظِيمَةِ، وَلم يُلْهِم إِلَيها أَبَا بَكْرٍ مَعَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ، وأَشَدُّ سَبْقاً إِلى كُلِّ خَيرٍ، حتَّى قَالَ عُمَرُ : «والله لا أَسْبِقُهُ إِلى شَيءٍ أَبَداً»( ). وكَانَ عليٌّ يَمُرُّ عَلى المسَاجِدِ وفيهَا القَنَادِيلُ في شَهْرِ رَمَضَانَ فَيقُولُ: «نَوَّرَ اللهُ على عُمَرَ في قَبْرهِ كَما نَوَّرَ عَلَيْنا مَسَاجِدَنا»( ). أَيْ: بِصَلاةِ التَّراويِحِ، وهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ لا يَحْقِرَ نَفْسَهُ في عَمَلِ الخَيرِ؛ فَقَدْ يَفْتَحُ اللهُ تَعَالى له باباً مِنَ الخَيرِ لا يَفْتَحُهُ لمنْ هُوَ أَفْضَلُ منه، وذَلكَ فَضْلُ الله يُؤْتيهِ مَنْ يَشَاءُ واللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيم.
الثالث: أنَّ اجْتماعَ المسْلمِين، وتَوَحُّدَ كَلِمَتِهِم أَولَى مِن تَفَرُّقِهِم، وأنَّه يَجبُ على وُلاةِ أُمُورِ المُسلِمينَ العَمَلُ على تَحقِيقِ ذَلك.
الرابع: أَنَّ اجْتِهَادَ الإِمَامِ في السُّنَنِ مُلْزِمٌ، وتَجِبُ طَاعَتُهُ في ذلك؛ كَما ائْتَمَرَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم لِعُمَرَ لما جَمَعَهُمْ على إِمَامٍ وَاحِد.
الخامس: أَنَّ اتِّفَاقَ الجَماعَةِ على إِحْياءِ السُّنَّةِ، واجْتِماعَهَم على الطَّاعَةِ تُرْجَى بَرَكَتُه؛ إِذ دُعَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم يَشْمُلُ جَمَاعَتَهُم؛ ولِذَلكَ صَارَتْ صَلاةُ الجَماعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الفَذِّ بِسَبْعٍ وعِشْرينَ دَرَجَة، قَالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيرٍ رَحِمهُ اللهُ تَعَالى: «لأَنْ أُصَلِّي مَعَ إِمَامٍ يَقْرَأُ بِهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيةِ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أَقْرَأَ مِئَةَ آيَةٍ في صَلاتي لِوَحْدِي»( ).
السادس: أَنَّ الأَعْمالَ إِذا تُرِكَتْ لِعِلَّةٍ، وزَالَتْ تِلكَ العِلَّةُ فَلا بَأْسَ بِإعَادَةِ العَمَلِ، كَما أَعَادَ عُمَرُ صَلاةَ التَّراويحِ في رَمَضَانَ جَمَاعَةً.
السابع: أَنَّهُ يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُم لِكِتابِ الله تَعَالى إِذَا أَمْكَنَ ذَلك، وَكَانَ أُبَيٌّ أَقْرَأَهَمْ فَقَدَّمَهُ عُمَرُ ، وهَذا هُو الأَفْضَلُ ولَيْسَ واجِباً؛ لأَنَّ عُمَرَ قَدَّمَ تَميماً الدَّارِيَّ وفي الصَّحَابَةِ مَنْ هُوَ أَقْرَأُ منه.
الثامن: أنَّه يُشْرَعُ للنِّسَاءِ حُضُورُ صَلاةِ التَّرَاوِيحِ معَ المُسلِمِين في مَسَاجِدِهم، كما يَجُوزُ أن يَؤُمَّ النِّسَاءَ لِوَحْدِهِنَّ رَجُلٌ إذا أُمِنَتِ الفِتنَةُ.
التاسع: جَوازُ الائْتِمامِ بالمصَلِّي وإن لم يَنوِ الإِمَامَة.
العاشر: إِذا كَانَ مِنْ عَادَةِ الإِمَامِ الاسْترَاحَةُ بَينَ تَسليمَتَينِ أَو أَرْبَعٍ مِنْ صَلاةِ التَّراويحِ أَو القِيامِ؛ فلا يُشْرعُ لِلمَأْمُومِ التَّنَفُّلُ بينهُما بِصَلاةٍ، وقَدْ كَرِهَ ذَلكَ الإِمَامُ أَحْمدُ، ونَقَلَ كَرَاهِيَتَهُ عَنْ ثَلاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وهُم: عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ وأَبُو الدَّرْدَاءِ وعُقَبةُ بنُ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم( ).
الحادي عشر: إِذا صَلَّى التَّراويحَ مَعَ إِمَامهِ حتَّى انْصَرَفَ، ثُم أَدْرَكَ جَماعَةً أُخْرَى يُصَلُّونَ التَّراويحَ وَأَرَادَ الدُّخُولَ مَعَهُم فَلا بَأْسَ بِذلك( ).
الثاني عشر: أَنَّهُ لا يُجتَمَعُ لِلنَّوافِلِ على التَّرتِيبِ والتَّوَالي إِلَّا في قِيَامِ رَمَضَانَ( )، وأَما غَيرُهُ فَتَرْتِيبُ الاجْتِماعِ عَلَيهَا مِنَ البِدَعِ؛ كَما لَو اجْتَمَعَ نَفَرٌ لِصَلاةِ الَّليْلِ طِوَالَ العَام، أَو في لَيالٍ مَخصُوصَةٍ يَقْصِدُونَها بالقِيَام؛ وذَلكَ لأَنَّ النَّبيَّ ﷺ ما جَمَعَ أَصْحَابَهُ على نَافِلةٍ إِلا في رَمَضَانَ، وهَكَذا أَحيَا هَذِهِ السُّنَّةَ عُمَرُ لما تَرَكَهَا النَّبيُّ ﷺ خَشْيةَ أَنْ تُفْرَضَ على النَّاس.