هل تنتقل من ليلة إلى أخرى باختلاف السنين؟
اختلف العلماء في هذا على قولين:
القول الأول: أنها تنتقل فتكون سنةً في ليلة، وسنةً في ليلةٍ أخرى.وإليه ذهب مالك، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور.قال الحافظ العراقي: "وذهب جماعة من العلماء إلى أنها تنتقل فتكون سنةً في ليلةٍ وسنة في ليلة أخرى وهكذا، وهذا قول مالك، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وغيرهم" ( ) وبه قالت الحنفية( ) وهو قولٌ عن للشافعية( )
القول الثاني: أنّها في ليلةٍ واحدة بعينها لا تنتقل. وهو مذهب ابن حزم، وبعض الشافعية.قال أبو محمد بن حزم: "ليلة القدر في شهر رمضان، خاصة في العشر الأواخر، خاصة في ليلةٍ واحدةٍ بعينها لا تنتقل أبداً، إلا أنه لا يدري أحدٌ من الناس أي ليلةٍ هي من العشر المذكورة، إلاّ أنها في وتر منها ولا بدّ" ( )
مناقشة القولين:
ولعل القول الأول هو الراجح لتضافر الأدلة على انتقالها، ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في سجود النبي صلى الله عليه وسلم على الماء والطين، قال أبو سعيد: "مُطرنا ليلة إحدى وعشرين فوكف المسجد في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح، ووجهه مبتلٌ طيناً وماءً"( )
ولحديث عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأُراني صبحَها أسجد في ماء وطين))، قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرف، وإنّ أثر الماء والطين على جبهته وأنفه( )
قال الحافظ ابن حجر: "وأرجحها كلها أنها في وترٍ من العشر الأخير، وأنها تنتقل، كما يُفهم من أحاديث هذا الباب"( )
الحكمة في رفع العلم بليلة القدر وعدم تعيينها
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: ((خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم..)) ( )
قال البيهقي: "قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها في الابتداء، غير أنه لم يكن مأذوناً له في الإخبار بها؛ لئلا يتكلوا على علمها فيُحْيُوها دون سائر الليالي، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أنسيها؛ لئلا يسأل عن شيء من أمر الدين فلا يخبر به" ( )
قال الحافظ ابن حجر: "قوله: ((فعسى أن يكون خيراً)) فإن وجه الخيرية من جهة أن خفاءها يستدعي قيام كل الشهر، أو العشر، بخلاف ما لو بقيت معرفة تعيينها"( )
وقال أيضاً: "قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عُيِّنت لها ليلةٌ لاقتُصِر عليها، كما تقدم نحوه في ساعة الجمعة، وهذه الحكمة مُطَّرِدة عند من يقول: إنها في جميع السنة، وفي جميع رمضان، أو في جميع العشر الأخير، أو في أوتاره خاصة، إلا أنّ الأول ثم الثاني أليق"( )
علامـات ليلة القدر
قَالَ اللهُ تَعَالى: [تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ(4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ(5)] ( )
وعَنْ زِرِّ بنِ حُبَيْشٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى قَالَ: «سَمِعْتُ أُبيَّ بنَ كَعْبٍ يَقُولُ، وقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَبدَالله بنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ قَامَ السَّنَةَ أَصَابَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَقالَ أُبيٌّ: والله الَّذي لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِنَّها لَفِي رَمَضَانَ - يَحلِفُ مَا يَسْتَثْني - ووالله إِنِّي لأَعْلَمُ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ، هِيَ الَّليْلَةُ الَّتي أَمَرَنَا بها رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِقِيَامِهَا، هِيَ لَيْلَةُ صَبيحَةِ سَبْعٍ وعِشْرينَ، وأَمَارَتُها أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ في صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لا شُعَاعَ لها»( ) .
وفي رِوايَةٍ لابنِ حِبَّان: «وَأَمَارَتُها أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ في صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لا شُعَاعَ لها كَأَنهَا طَسْت»).قال القاضي عياض: في تفسير قول أبيّ: "يحتمل وجهين:
أحدهما: أن هذه الصفة اختصت بعلامةِ صبيحةِ الليلةِ التي أنبأهم النبي صلى الله عليه وسلم أنها ليلة القدر، وجعلها دليلاً لهم عليها في ذلك الوقت، لا أن تلك الصفة مختصة بصبيحة كل ليلة قدر، كما أعلمهم أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين.
والثاني: أنها صفة خاصة لها، وقيل في ذلك: لما حجبها من أشخاص الملائكة الصاعدة إلى السماء، الذي أخبر الله بتنـزيلهم تلك الليلة حتى يطلع الفجر، والله أعلم
وعَنْ ابنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ في النِّصْفِ مِنَ السَّبْع الأَوَاخِرِ من رَمَضَانَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ غَدَاةَ إِذْ صَافِيَةً لَيْسِ لها شُعَاعٌ، قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: فَنَظَرْتُ إِلَيها فَوَجَدْتُها كَما قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم » رواه أحمد( )
وعَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ في لَيْلَةِ القَدْرِ: «إِنَّها لَيْلَةُ سَابِعَةٍ أَوْ تَاسِعَةٍ وعِشْرينَ، إِنَّ المَلائِكَةَ تِلْكَ الَّليلَةَ في الأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الحَصَى» رواه أحمد( )
وَعَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَمَارَةَ لَيْلَةِ القَدْرِ أَنَّها صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ - أَيْ مُسْفِرَةٌ مُشْرِقَةٌ- كَأَنَّ فِيهَا قَمَراً سَاطِعاً، سَاكِنَةٌ سَاجِيَةٌ - أَيْ فيهَا سُكُونٌ- لا بَرْدَ فيهَا وَلا حَرَّ، وَلا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ أَنْ يُرْمَى به فيهَا حَتى يُصْبِحَ، وإِنَّ أَمَارَتَها أَنَّ الشَّمْسَ صَبيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَويَةً لَيسَ لها شُعَاعٌ مِثْلَ القَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ» رواه أحمد( )
وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «إِنِّي كُنْتُ أُريتُ لَيْلَةَ القَدْرِ ثُم نَسيتُهَا وَهِيَ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَهِيَ طَلْقَةٌ بَلْجَةٌ لا حَارَّةٌ ولا بَارِدَةٌ، كَأَنَّ فيهَا قَمَراً يَفْضَحُ كَوَاكِبَهَا لا يَخْرُجُ شَيْطَانُها حَتى يَخْرُجَ فَجْرُهَا» رواه ابن خزيمة وابن حبان( )
وعنْ ابنِ عَباسٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُما عَنْ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في لَيْلَةِ القَدْرِ: «لَيْلَةٌ طَلْقَةٌ لا حَارَّةٌ ولا بَارِدَةٌ تُصْبِحَ الشَّمْسُ يَوْمَهَا حَمْرَاءُ ضَعِيفَة» رواه ابن خزيمة( )
الفوائد والأحكام: دَلَّتْ هَذِهِ النُّصوصُ عَلى أَنَّ لِلَيْلَةِ القَدْرِ عَلامَاتٍ هِيَ:
العلامة الأولى: كُثْرَةُ تَنَزُّلِ المَلائِكَةِ فيهَا، وفي مُقَدِّمَتِهِم جِبْريلُ عَلَيهِ السَّلامُ لِيَشْهَدُوا المصَلينَ في مَسَاجِدِهِم، حتَّى إِنَّ الملائِكَةَ أَكثَرُ منْ عَدَدِ الحَصَى، وهَذِهِ العَلامَةُ لا تَظْهَرُ لِلنّاس.
العلامة الثانية: أَنَّ السَّلامَةَ تَكْثُرُ فيهَا بما يَقُومُ بِهِ العِبَادُ مِنْ طَاعَةِ الله عَزَّ وَجَلَّ.
العلامة الثالثة: أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ صَبِيحَتَهَا بَيْضَاءَ لا شُعَاعَ لها. وسَبَبُ ذَلِكَ فيما ذَكَرهُ العُلَماءُ: أَنَّ المَلائِكَـةَ يَصْعَدُونَ إِلى السَّمـاءِ فَتَحْجُبُ أَجْنِحَتُهُم أَو أَنْوَارُهُم أَشِعَةَ الشَّمْسِ( )وذَلكَ مِنْ كَثْرَةِ تَنَزُلِهَم تِلْكَ الَّليْلَة.
العلامة الرابعة: أَنَّ مِنْ صِفَاتِهَا أَنَّها لَيْلَةٌ صَافِيَةٌ سَاكِنَةٌ لا بَارِدَةٌ ولا حَارَةٌ، وهَذَا أَمْرٌ نِسْبِيٌ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ البُلْدَانِ بُرودَةً وحَرَارَةً، والمَعْنَى: أَنَّها لا بَارِدَةٌ ولا حَارَّةٌ بالنِّسْبَةِ لِلَّيَالي الَّتي قَبْلَهَا والَّتي بَعْدَهَا.
العلامة الخامسة: أَنَّ الشَّيْطَانَ لا يَخْرُجُ مَعَ شَمْسِ صَبيحَتِهَا؛ ذَلكَ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ بَينَ قَرْنَي الشَّيْطَانِ إِلا صَبيحَةَ لَيْلَةِ القَدْرِ.
أَنَّ أَكْثَرَ العَلامَاتِ المذْكُورَةِ لا تَبِيْنُ لِلنَّاسِ إلا بَعْدَ انْتِهَاءِ لَيْلَةِ القَدْرِ، وفَائِدَةُ ذَلكَ: أَنْ يَشْكُرَ مَنْ أَدْرَكَهَا رَبَّهُ عَلى تَوْفِيقِهِ لِقِيامِهَا، ويَنْدَمَ المُفَرِّطُ فِيهَا، ويَعْزِمَ عَلى تَدَارُكِهَا في السَّنَةِ القَادِمَةِ.وأَنَّ هَذِهِ العَلاماتِ رَاتِبةٌ لِكُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ تَأْتي، ولَيْسَتْ خَاصَّةً بِوَقْتِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ( )