الناس في يوم القيامة يردون فصل القضاء طوائف متفرقة, و أصنافاً شتى, منهم من يستحق غاية الإكرام, ومنهم من يستحق غاية التعذيب, ومنهم من هو بين ذلك.
فهناك الأنبياء, وهناك المؤمنون – السابقون منهم والمقتصدون -, وهناك من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً, وهناك كفارهم أعداء الله ومحل سخطه وبغضه.
إنهم يردون أصنافاً شتى لا يعلمهم إلا الله تعالى, فمن من هؤلاء يحاسب؟ ومن من هؤلاء لا يحاسب, بل يكرمهم الله فلا يحاسبهم؟
قد أجمل القرطبي رحمه الله الجواب عن هذه الأصناف بالنسبة للحساب, فقسمهم إلى ثلاثة فرق فقال:
(فرقة: لايحاسبون أصلاً, وفرقة: تحاسب حساباً يسيراً – وهما من المؤمنين - وفرقة: تحاسب حساباً شديداً, يكون منها مسلم وكافر, وإذا كان من المؤمنين من يكون أدنى إلى رحمة الله, فلا يبعد أن يكون من الكفار من هو أدنى إلى غضب الله, فيدخله النار بغير حساب) (1) .
والواقع أن الإجابة تحتاج إلى تفصيل أكثر لطوائف الناس, وسنذكر فيما يلي تفصيل ما قيل عن كل طائفة:
1- أما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:
ففي محاسبة الله تعالى لهم خلاف بين العلماء, وسبب الخلاف فيهم هو ما جاء فى قوله تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إليهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6 ]
فإن هذه الآية تدل على أن الله يحاسب جميع البشر؛ الرسل و المرسل إليهم, وهذا هو ما يذهب إليه بعض العلماء.
قال الرازي في إثبات أن السؤال يقع على الأنبياء والأمم أيضاً:
(المسألة الثانية: الذين أرسل إليهم هم الأمة, و المرسلون هم الرسل, فبين تعالى أنه يسأل هذين الفريقين. قال: و نظير هذه الآية قوله: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ الحجر: 92, 93 ]) (2)
وقال أيضاً في معرض عده للمسائل التي اشتملت عليها الآية:
(المسألة الرابعة: الآية تدل على أنه تعالى يحاسب كل عباده؛ لأنهم لا يخرجون عن أن يكون رسلاً أو مرسلاً إليهم, ويبطل قول من يزعم أنه لا حساب على الأنبياء و الكفار) (3) .
ويذكر ابن كثير أن الله تعالى يسأل الأنبياء عن تبيلغ أقوامهم رسالة الله تعالى, فقال: (فيسأل الله الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به, ويسأل الرسل أيضاً عن إبلاغ رسالاته. ثم نقل عن ابن عباس في تفسير الآية: أن الله يسأل الرسل عما بلغوا) (4)
ويذكر الشوكاني في معنى الآية: وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6 ] (أن السؤال للأنبياء الذين بعثهم الله: أي نسألهم عما أجاب به أمهم عليهم, ومن أطاع منهم ومن عصى, و قيل: المعنى فلنسألن الذين أرسل إليهم يعني الأنبياء, ولنسألن المرسلين يعني الملائكة) (1).
وقال السفاريني عن مسألة حسابهم: (والجواب أنه لاحساب على الأنبياء عليهم السلام على سبيل المناقشة والتقريع). (2)
ويقول النسفي فيما ينقله عنه السفاريني: (الأنبياء لاحساب عليهم, وكذلك أطفال المؤمنين, وكذلك العشرة المبشرة بالجنة, هذا فى حساب المناقشة, وعموماً الآيات الكريمة مخصوص بأحاديث من يدخل الجنة بغير حساب, ولهذا قال علماؤنا في عقائدهم: ويحاسب المسلمون المكلفون, إلا من شاء الله أن يدخل الجنة بغير حساب وكل مكلف مسؤول, و يسأل من شاء من الرسل عن تبليغ الرسالة, ومن شاء من الكفار عن تكذيب الرسل)(3).
وعلى القول بأنهم يسألون – ومعلوم أنه لا ذنوب لهم ليحاسبوا عليها – فما المقصود من وقوع السؤال عليهم؟
أجاب الرازي عن ذلك بقوله: (فإن قيل: فما الفائدة فى سؤال الرسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة؟ قلنا لأنهم إذا أثبتوا أنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة؛ التحق التقصير بكليته بالأمة؛ فيضاعف إكرام الله فى حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التقصير, ويتضاعف أسباب الخزي والإهانة فى حق الكفار لما ثبت أن كل التقصير كان منهم) (4).
فالذي يظهر أن إطلاق القول بأن الأنبياء يسألون؛ أن المقصود به مساءلتهم عن تبليغهم الدعوة إلى أقوامهم, وهو مجرد مساءلة لزيادة إقامة الحجة على العصاة, وليس مساءلة مناقشة وتقريع, كما ظهر مما سبق.
و أما إطلاق القول بأنهم لا يسألون, فالمراد به ما تقدم من أنهم لا يسألون سؤال مناقشة واستظهار.
وإذا كان قد ثبت أن طائفة من أتباع الأنبياء يدخلون الجنة بغير حساب, فكيف بالأنبياء الذين لهم المزية الأولى في كل تكريم؟
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عن مساءلة الأنبياء: (وسؤال الله للرسل مَاذَا أُجِبْتُمْ [ المائدة: 109 ] لتوبيخ الذين كذبوهم, كسؤال الموءودة بأي ذنب قتلت لتوبيخ قاتلها) (5).
2- و أما بقية المؤمنين بصورة عامة:
فلا ريب أن الله تعالى يحاسبهم محاسبة من توزن حسناته وسيئاته, و بالحساب يمتاز بعضهم على بعض بالدرجات؛ نتيجة لثقل موازينهم وخفتها فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [ الزلزلة: 7 - 8]
وقد قدمنا ذكر للنصوص التي تدل على محاسبة الله تعالى عباده المؤمنين.
وأما أولئك السبعون الألف الذين ورد النص بأنهم لا يحاسبون, فهو إكرام من الله تعالى لنبينا محمد صلي الله عليه وسلم لأمته.
قال النووي فى تعليقه على هذا الحديث: (إن فيه عظم ما أكرم الله سبحانه وتعالى به النبي صلي الله عليه وسلم و أمته, زادها الله فضلاً وشرفاً) (1)
وقال السفاريني: (ثبت فى عدة أخبار عن النبى المختار صلى الله عليه وسلم – ما كر الليل على النهار – أن طائفة من هذه الأمة بلا ارتياب يدخلون الجنة بغير حساب, فيدخلون جنات النعيم قبل وضع الموازين, وأخذ الصحف بالشمال واليمين). (2)
و مصداق هذا ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلي الله عليه وسلم فى السواد الذي رفع له كما مر, وعن أبي أمامة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: ((إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألف بغير حساب, فقال يزيد الأخنس: والله ما أولئك في أمتك إلا كالذباب الأصهب في الذبان, فقال رسول الله: فإن ربي عز وجل قد وعدني سبعين ألفاً مع كل ألف سبعين ألفاً, وزادني ثلاث حثيات, قال فما حوضك؟ قال: ما بين عدن إلى عمان, وأوسع وأوسع – يشير بيده – قال: فيه مثعبان من ذهب وفضة. قال: فما حوضك يا نبي الله؟ قال: أشد بياضاً من اللبن, و أحلى من العسل, وأطيب من رائحة المسك, من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً, ولم يسود وجهه أبداً)) (1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: ((سألت الله تعالى الشفاعة لأمتي, فقال لك سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب, قلت ربي زدني, فحثا لي بيديه مرتين, وعن يمينه, وعن شماله))