لغفلة عن يوم القيامة وما فيه من أهوال وشدائد وعدم تذكر ذلك على الدوام والتذكير به من شأنه أن يُنسِي ذلك اليوم وما يترتب عليه من عذاب أو نعيم، الأمر الذي يؤثر في حياة المسلم في هذه الدنيا وفي سلوكه فيها، لذلك لا تكاد تمر صفحة من صفحات كتاب ربنا -عز وجل- دون وصف دقيق ليوم القيامة أو اليوم الآخر وما فيه من جنة ونار وعذاب ونعيم أو تخويف منه، فضلاً عما في السنة النبوية المطهرة التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخول بها صحابته في كل موقف بموعظة تجهش منها العيون بالبكاء وتفرق منها القلوب من الخوف.
وفي يوم القيامة بيان قدرة الله تعالى وعظمته في خلق الخلق وابتلائهم بدينه، إذ قسم حياتهم على دارين: دار الدنيا ودار الآخرة، وجعلهم في الدنيا فريقين (فَرِيْقَاً هَدَى وَفَرِيْقَاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) [الأعراف:30] وبوأهم في الآخرة منزلين (فَرِيْقٌ فِيْ الْجَنَّةِ وَفَرِيْقٌ فِيْ الْسَّعِيرِ) [الشورى:7].
وفي القيامة أحداث وأهوال وأحوال ينتقل العباد فيها من طور إلى طور، لما يبعث الرهبة في النفوس، ويملأ القلوب إجلالا لله تعالى وتعظيما؛ ففي ذلك اليوم العظيم البعث والنشور، وتبديل الأرض، وانفطار السماء، وتغير أحوال العالم، وجمع الأولين والآخرين، ووقوف الناس للحساب، وشدة الزحام، ودنو الشمس من الرؤوس، وغزارة العرق، ووضع الموازين، وعرض الدواوين، ونصب الصراط على متن جهنم، ومرور العباد عليه، وورود المؤمنين على الحوض، وغير ذلك.
أحداث وأهوال وعظائم لا طاقة للعقل بتصورها إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة ويدخل أهل النار النار، وكل ذلك يحدث (فِيْ يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِيْنَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج:4]. فما أعظم قدرة الله تعالى! وما أكثر خلقه! وما أعجب تدبيره وتقديره! (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيْمُ) [الحجر:86].
إنه يوم القيامة، يومُ الصاخةِ والقارعةِ والطامةِ، ويومُ الزلزلةِ والآزفةِ والحاقة، يومَ يقومُ الناس لرب العالمين؛ يومٌ عظيم، وخَطْبٌ جَسِيم، يومٌ مقداره خمسون ألف سنة، يجمع الله فيه الخلائق أجمعين، من لدُن آدم -عليه السلام- إلى قيام الساعة؛ ليفصل بينهم ويحاسبَهم.
وتدنو الشمس من الخلائق مقدارَ مِيل، ويفيضُ العرقُ منهم بحسب أعمالهم، فمنهم من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حِقْوَيه، ومنهم يبلغ إلى مَنْكِبَيه، ومنهم من يُلْجِمه العرق إلجامًا، وتبقى طائفة في ظل الله -جل جلاله-، يوم لا ظل إلا ظله.
ويُكرِم اللهُ أنبياءَه في عَرَصَات القيامة بالحوض المورود، ولكل نبيٍ حوض، وحوضُ نبينا -صلى الله عليه وسلم- أعظمُها وأفضلُها، طوله شهر وعرضه شهر، يَصُب فيه مِيزَابان من نهر الكوثر في الجنة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وريحُه أطيبُ من ريح المسك، آنيتُه كنجوم السماء عددًا ووصفًا ولمعانًا، من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا، يَرده المؤمنون بالله ورسوله، المتبعون لشريعته، ويُطرد عنه الذين استنكفوا واستكبروا عن اتباعه.
فإذا اشتد الكرب بالناس في المحشر، ذهبوا إلى آدم وأولي العزم من الرسل: نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى؛ ليشفعوا لهم إلى ربهم ليفصل بينهم، فكلهم يقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، حتى إذا يئس الخلائق من شفاعتهم أتوا إلى خاتمِ النبيينَ وأفضلِ المرسلين وسيدِ ولد آدم أجمعين، محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- فسألوه الشفاعة إلى ربهم، فيقول: "أنا لها، أنا لها"، فيذهب فيستأذن على ربه، ثم يخر ساجداً تحت العرش، ويفتح الله عليه من محامده والثناء عليه، ثم يشفِّعه في خلقه.
هذه بعض التفاصيل التي يُنتظر أن تقع في يوم القيامة، ذلك اليوم الرهيب المفزع. وقد انتقينا لخطبائنا الكرام في هذا الأسبوع مجموعة من الخطب المختارة حول هذا اليوم العظيم وما فيه من أهوال، ذاكرين أحوال المؤمنين الصالحين وأحوال المنافقين والكافرين، وكيف يفرّق الله تعالى بينهما في الجزاء والعقاب، وكيف يكرم هؤلاء ويهين أولئك، سائلين الله تعالى أن يجعلنا من أهل الإيمان الذين ينالون المكرمات، وأن يباعد بيننا وبين أهل النفاق والكفر كما باعد بين المشرق والمغرب.