الخطبة الأولى
الحمد لله ذي الفضل والإنعام أمر بخشيته وحده وطاعته وهى عن مخالفة أمره ومعصيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من بريته صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل طاعته وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد..
أيها المؤمنون بالله ورسوله اتقوا الله فإن الله شديد العقاب ذو الطول لا إله إلا هو إليه المصير عباد الله اتقوا الله واحذروا عقابه وشديد عذابه وسخطه فإنه سبحانه وتعالى شديد العذاب قال الله جل ذكره: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ` وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾.
وقد حذركم الله سبحانه وتعالى نفسه في كتابه فقال: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾. قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: " أي يخوفكم الله من نفسه أن تركبوا معاصيه أو توالوا أعداءه فإن إليه مرجعكم ومصيركم بعد مماتكم فإن خالفتم أمره نالكم من عقاب الله ما لا قِبل لكم به، فاتقوه واحذروه أن ينالكم ذلك منه فإنه شديد العقاب ".
أيها المؤمنون إن الله تبارك وتعالى ببالغ حكمته فرض عليه خوفه وأوجبه قال جل ذكره: ﴿فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ وقال سبحانه: ﴿فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾. بل قد جعل سبحانه وتعالى خوفه شرطاً لصحة الإيمان فقال سبحانه عز وجل: ﴿فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
وقد أنذركم الله أيها المؤمنون الأمن من مكره وعذابه فقال تعالى: ﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ وقال سبحانه: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ – أي عملوا السيئات-أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ`أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ وقال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾
أيها المؤمنون إن الخوف من الله تعالى من أجل العبادات ومن أعظم القربات فهو الذي يحول بينكم وبين محارم الله عز وجل ومعاصيه فلله ما أعظمه، ولله ما أحوجنا إليه ولله ما أحسن عاقبته في الدنيا والآخرة إذ بالخوف يا عباد الله ينزع العبد عن المحرمات وبه يقبل على الطاعات فهو والله أصل كل فضيلة وباعث كل قربة.
وبالخوف أيها المؤمنون يستيقظ القلب من غفلته وينتفع بالإنذار ويتأثر بآيات القرآن قال الله تعالى: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾, وقال سبحانه: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾
عباد الله: إن الخوف من الله تعالى هو من أخص صفات عباد الله المتقين وأوليائه المحسنين: قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾) قال الإمام الطبري رحمه الله: "المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وجل قلبه وانقاد لأمره وخضع لذكره خوفاً منه وفرقاً من عذابه".
أيها المؤمنون لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الخوف من الله عظيم الخشية له مع ما خصه الله سبحانه وتعالى به من الخصائص والفضائل والهبات ففي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: "فوالله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية". وعن عبدالله بن الشخير رضي الله عنه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي وله أزيز كأزيز المرجل من البكاء" رواه أحمد وغيره.
أيها المؤمنون هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بلغ الغاية في العمل والطاعة ومع ذلك كله كان شديد الخوف من ربه حتى كان أكثر دعائه كما في جامع الترمذي: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" وكان من دعائه كما في صحيح مسلم: "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك".
أيها المسلمون :إن سلفنا الصالح كانوا يتوجهون إلى الله في خشية وبكاء ووجل وطمع الخوف من عذاب الله والرجاء في رحمته والخوف من غضبه والطمع في رضاه والخوف من معصيته والطمع في توفيقه يدعون ربهم خوفا وطمعا والتعبير القرآني يصور هذه المشاعر المرتجفة في الضمير بلمسة واحدة حتى لكأنها مجسّمة ملموسة إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين إنها الصورة المشرقة المضيئة لسلفنا الصالح رضوان الله عليهم كانوا يخافون ويرجون وكانوا يبكون حتى يؤثر فيهم البكاء فبكاؤهم ثمرة خشيتهم لله قال تعالى عنهم: (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا), وقال أيضا: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) ، فبالخوف والخشية تحترق الشهوات وتتأدب الجوارح ويحصل في القلب الذبول والخشوع والذلة والاستكانـة والتواضع والخضوع، أما صحابته الكرام فهم الذين قال فيهم القائل:
إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع
فسيرهم رضي الله عنهم حافلة بالعبر والعظات فهذا صديق هذه الأمة وأفضلها بعد نبيها صلى الله عليه وسلم المبشر بالجنة وعظيم المنة كان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله تعالى، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه المبشر بالجنة قرأ سورة الطور حتى إذا بلغ ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِع﴾ بكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعاده الناس رضي الله عنه وكان يقول لابنه وهو في الموت: ويحك ضع خدي على الأرض عساه أن يرحمني، وهذا عثمان رضي الله عنه كان إذا وقف على القبر بكى حتى يبل لحيته رضي الله عنه أما جمهور الصحابة رضي الله عنهم فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس أنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" قال أنس: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين. فرضي الله عنهم وأرضاهم ما أجمل فعلهم وأعذب ذكرهم.
عن حفص بن عمر قال: بكى الحسن البصري فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن يطرحني في النار غدا ولا يبالي.
وقال وهب بن منبه - رحمه الله -: ما عبد الله تعالى بمثل الخوف.
وقال أبو سليمان الدارني: أصل كل خير في الدنيا والآخرة هو الخوف من الله عز وجل، وكل قلب ليس فيه خوف الله فهو قلب خرب.
ولهذا من خاف واشتد وجله من ربه في هذه الدنيا يأمن يوم الفزع الأكبر فعن أبي هريرة عن النبي فيما يرويه عن ربه جل وعلا أنه قال: "وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين: إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة" رواه أبن حبان في صحيحه.
عباد الله هذه نماذج من مخاوف القوم مع ما خصهم به الله تعالى من الرضا والغفران وتبشير بعضهم بالجنان. فليت شعري ماذا نقول وقد قست منا القلوب وأمنت منا المخاوف فلا بقرب الرحيل ننتبه ولا بآيات الله نتعظ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الخطبة الثانية
أما بعد..
اتقوا الله واعلموا أن من علامات خوف الله تعالى وخشيته عدم الأمن من عذاب الله وعقابه وسخطه قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ` وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ` وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ` وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ فهؤلاء يا عباد الله قوم حسُنت أعمالهم وطابت سرائرهم وزكت قلوبهم واستقامت جوارحهم إلا أنهم مع ذلك لم يأمنوا عقاب الله وعذابه، فقلوبهم وجلة خائفة أنهم إلى ربهم راجعون.
فلا إله إلا الله ما أطيب قلوبهم وأزكى سرائرهم وأشد خوفهم وحبهم وتعظيمهم لربهم جل وعلا فإن هذه الآيات والعظات لا يعتبر بها إلا من عمر الخوف قلوبهم قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ أيها المؤمنون إنه لما ضعف إيماننا بالله وقلّ خوفنا منه وتعظيمنا له قست منا القلوب وساءت الأعمال وصدق في كثير منا قوله جل وعلا: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون﴾() فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون.
والخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه ويبن محارم الله عز وجل فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيميه: الخوف المحمود: هو ما حجزك عن محارم الله وهذا الخوف من أجلّ منازل السير إلى الله وأنفعها للقلب وهو فرض على كل أحد.
ومن كان الخوف منه بهذه المنزلة سوف يحجزه خوفه عن المعاصي والمحرمات فلا يأكل مالا حراما ولا يشهد زورا، ولا يحلف كاذبا، ولا يخلف وعدا ولا يخون عهدا ولا يغش في المعاملة ولا يخون شريكه ولا يمشي بالنميمة، ولا يغتاب الناس ولا يترك النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يزني ولا يتعاطى محرما ولا يشرب المسكرات ولا المخدرات ولا الدخان ولا الشيشة ولا يهجر مساجد الله ولا يترك الصلاة في الجماعة ولا يضيع أوقاته في اللهو والغفلة بل تجده يشمر عن ساعد الجد يستغل وقته كله في طاعة الله ولهذا قال : "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ألا وإن سلعة الله غالية ألا وإن سلعة الله هي الجنة" رواه الترمذي وهو حديث حسن.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضى، والقصد في الغنى والفقر.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد...
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.