(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ))[سبأ:1].
أحمده تعالى وأتوكل على الحي الذي لا يموت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وعلى أصحابه، وعلى كل من دعا بدعوته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
يقول الله جل جلاله وتقدست أسماؤه: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ))[فاطر:5].
عباد الله: ينهى الله تعالى وتقدس في هذه الآية وأمثاله عن الاغترار بالدنيا وحطامها الفاني، ينهى عن أمن الدنيا والركون والاطمئنان إليها، ينهى عن الانخداع بزخارفها البراقة ومباهجها الزائلة، ينهى عما هو أعظم من ذلكم، عن الاشتغال بها عن الآخرة، عن إيثارها على الآخرة، عن إرادة الدنيا والعياذ بالله بعمل الآخرة، كمن يعمل عملاً صالحاً قربة، ليكسب من وراءه عمل مادة أو أمراً دنيوياً، ينهى أولئكم ويؤذنهم ويتوعد أولئكم بالعذاب الأليم وبتصلية الجحيم، يقول جل وعلا: (( فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ))[النازعات:37-41]. ويقول: (( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ))[الإسراء:18-19].
وإن داراً أوصافها في القرآن الكريم وفي السنة الغراء، أوصافها أنها غرور، متاع قليل، ممر، معبر، وصفها خير رسول بأنها كراكب قال تحت ظل دوحة، وضرب الله تعالى المثل في قصر عمرها وخيبة آمال أهلها بقوله جل وعلا: (( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ))[يونس:24]، دار هذا شأنها ما أضحكت ويم الله إلا وأبكت، ولا أفرحت إلا وأحزنت، جميع ما فيها نهاية: قوتها الضعف، وشبابها الهرم، بل وحياتها الموت، جميع ما فيها ظل زائل وعارية مستردة، وقديماً قيل:
وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الودائع
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحول رماداً بعد إذ هو ساطع
دار هذا وصفها ونهايتها، هل يغتر بها عاقل، هل يأمنها أو ينتفع بها أو يطمئن إليها من له مسكة من عقل، هل يوالي أو يعادي من أجلها من له مسكة من عقل.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وكونوا من الدنيا على حذر، فإن أتعس من فيها وأشد أمناً ممن فيها من خافها وحذرها، بل وسخرها لآخرته، وذللها لأمور دينه، وجعلها مطية يصل بها أو منها إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإنها وسيلة إذا استغلت وصلحت وسيلة توصل إلى الله، بل ومزرعة تجنى ثمارها عند الله، فهي مجال فسيح للتحصيل لمن حذرها، لمن خافها، لمن تقيد فيها بشرع الله وأخلص أعماله فيها لله، واتبع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاتقوا الله أيها الإخوة المؤمنون: وراقبوا الله وخافوا من أن تغروا أو تخدعوا بمباهجها فتخسروا الدنيا والآخرة والعياذ بالله.
أعود فأقول: ذللوها، ذللوا دنياكم لآخرتكم، واستعملوها فيما يقربكم إلى الله، واتخذوا منها مزرعة تجنون ثمارها عند الله، ومطية تمتطونها إلى الله سبحانه وتعالى.
فهكذا عباد الله المؤمنين يعملون وكأنهم سيغادرونها لحظتهم أو أمسيتهم أو صبيحتهم، يعملون فيها وكأنهم في آخر لحظة من لحظات حياتهم يعملون عمل المودع، عمل الخائف، عمل المنتقل في لحظته، عمل من يعلم أنه لن يصحبه من دنياه، ولن ينفعه من أعماله فيها، وفيما كسبه فيها إلا ما كان من عمل صالح، من عمل بر، من عمل يكون قربة إلى الله وشفيعاً له عند الله.
جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ إذا مات ابن آدم تبعه ثلاثة: ماله وأهله وولده، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع المال والأهل ويبقى العمل ]
وقال يوماً لأصحابه: [ أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ قالوا: كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: فإنما لأحدكم ما قدم ومال الوارث ما أخر ] أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وقال في مجال التحذير من الاغترار بالدنيا: [ إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ما تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ]
وقال: [ من كانت الدنيا نيته، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة ] أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فاتقوا الله وامتثلوا أمر الله فيما حذركم منه بقوله: (( فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ))[لقمان:33].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ))[الفاتحة:2-4].
أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وعلى أصحابه، وعلى كل من دعا بدعوته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أقدامكم على النار لا تقوى، وأن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم.
إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.
عباد الله: اتقوا الله، واتعظوا بمواعظ الله، إن الله جلت قدرته وتعالت أسماؤه، لما ضرب الله المثل بقوله: (( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ))[يونس:24]، لم يضرب هذا المثل عبثاً، وإنما لنتأمل ولنتذكر فيما يعظنا به بقوله وبكلامه وبقرآنه، الذي جاء به في ختام الآية: (( كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ))[يونس:24]. لك أيها المؤمن، لك أيها المفكر، لك أيها الراجي ثواب الله (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ).
وإن الله ضرب لنا الأمثال في قرآنه، وأعلمنا إياها في واقع حياتنا بما يسمى الإيضاح وإقامة الحجة، فلقد شهدنا فيما مر من أعمارنا، شهدنا الأرض تزدان ثم تنتهي، وفي عامنا هذا شهدنا الأمطار الكثيرة، وشهدنا الأنهار النيرة، فلكم رأينا في جنبات هذا البلد من الحدائق الطبيعية، ومن الأزهار المتفتحة التي تشرح الصدور وتنعش القلوب، لكم شهدناها كما وصفها الله (( مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ ))[يونس:24]، واليوم اخرجوا سترون تلكم الرياض النيرة، تلكم الأنهار هباء منثورة، حصيداً كما وصفها الله سبحانه وتعالى.
وإن في ضرب الأمثال بالقرآن وفي وجودها في واقعنا ما يعظنا ويذكرنا في حياتنا، وبدنيانا أن هذا أمرها شباب فهرم، حياة فموت، قوة فضعف.
كذا أيها المسلم فاتعظ بمواعظ الله، وتذكر بما يذكرك الله به وبما جاء في سنة رسوله وكن ممن قال الله فيهم: (( كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ))[يونس:24]، ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ضرب هذا المثل للناس، وبعد أن وجد في واقع الحياة وشاهده الناس في حياتهم الأولى والمستمرة، قال سبحانه وتعالى: (( وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ))[يونس:25].
(( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى ))[يونس:26]، للذين نظروا فتفكروا، فاعتبروا فعملوا، (( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ))[يونس:26].
(( وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ )) وعظوا ذكروا قولاً، ذكروا بما يعيشون فيه، أمروا فلم يأتمروا، وعظوا فلم يتعظوا، ذكروا فلم يتذكروا (( وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ ))[يونس:27].. الآية.
فيا أيها الإخوة المؤمنون: اعتبروا وتذكروا واعلموا أن هذه الأمور لم تكن محض صدفة، ولكنها عبر من الله ومواعظ من الله، أعمارنا كالزهيرات التي شاهدتموها، انظروا هل ترونها؟ لا، لا، لكنها ذهبت هباءً منثوراً، فاعتبروا وتذكروا واستعدوا وكونوا ممن أحسنوا، ولا تكونوا ممن أساءوا وكسبوا السيئات.
اتعظوا وصلوا على أكرم رسول وأعظم نبي، فقد أمرنا الله تبارك وتعالى بذلكم في قوله عز وجل: (( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))[الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر عمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وبصفاتك العلى أن تحيينا حياة طيبة، مليئة بفعل الخيرات، والجهاد في سبيلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ابتغاء وجهك يا ذا الجلال والإكرام.
نسألك اللهم أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تدمر أعداء الدين، نسألك اللهم أن تثبتنا، وأن تخذل أعداءنا، وأن تغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين والمؤمنات.
(( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ))[البقرة:201].
(( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ))[النحل:90].
تحميل : Word