الحمد لله الذي أرسل عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى والنور المبين، وجعله إماماً وقائداً للغر المحجلين، واختار له خير الأصحاب والأحباب والأنصار من المؤمنين، والأبرار الصالحين، فكانوا خير أمة أخرجت للناس أجمعين ، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق السماوات السبع وكل شئ والأراضين ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله نبي الهدى والرحمة، والمربي الكامل، والرسول الأمين الذي ربى وزكى أطهر أمة، وخير رجال عرفهم التاريخ فكانوا مثلاً للناس أجمعين وقدوة لكل من أراد الله والدار الآخرة ممن يأتي بعدهم من المسلمين والمؤمنين،
{ يا أيا الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا واتقوا الله الذين تساءلوا به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا }
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ** يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما }
أما بعد ...
فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
حديثنا اليوم عن رجل عرفه التاريخ ، عن رجل سطر معنى المحبة والفداء ، عن رجل أحب الله ورسوله فأحبه الله ورسوله ، عن رجل بشر بالجنة وبشر بمجاورة الرسول صلى الله عليه وسلم ، رجل دائم الخوف من المولى جل وعلا الذي كان يقول :" لو إن إحدى قدميّ في الجنة والأخرى خارجها ما آمنت مكر ربي " . إنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه .
فقد منَّ الله عز وجل على الرسول صلى الله عليه وسلم بأن جعل له من الصحابة الكرام، ذوي الفضائل العديدة، والخصال الحميدة، الذين نصر الله بهم الإسلام فكانوا خير صحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قدَّموا بين يديه الغالي والرخيص، وضربوا من الأمثال والوقائع، ما تعجز عن تصوره العقول في بعض الأحيان، ولولا صحة هذه الأخبار التي نقرأها عن الصحابة، لقلنا بأنها ضرب من الخيال. وفي مقدمة هؤلاء الصحابة الخلفاء الراشدون، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، الأئمة المهديون، الذين قاموا بالخلافة بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم خير قيام، فحافظوا الدين، وساسوا الأمة بالعدل والحزم والتمكين، فكانت خلافتهم أفضل خلافة في التاريخ، وكان حكمهم أحسن حكم ، رحمهم رحمة واسعة، وجزى الله الإسلام والمسلمين عنهم خير الجزاء، وإنه لتشهد بذلك أفعالهم، وتنطق به آثارهم، وقليل من المسلمين من يعرف عنهم، ويقرأ سيرتهم.
ولقد كان أجلهم قدرا، وأعلاهم فخرا، أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين خيرٌ من أبي بكر، خَلَفَ النبي صلى الله عليه وسلم في أمته، بإشارة من النبي ، فقد ثبت في صحيح البخاري - أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت أرأيت إن لم أجدك، قال: ((فائتي أبا بكر)).
كان أبو بكر رضي الله عنه، من سادات قريش وأشرافهم وأغنيائهم، شهد له ابن الدَّغنة، أمام أشراف قريش، بما شهدت به خديجة للرسول صلى الله عليه وسلم، حين قال له، إنك تُكسب المعدوم، وتصلُ الرحم، وتحملُ الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بادر رضي الله عنه إلى الإيمان به وتصديقه، ولم يتردد حين دعاه للإيمان، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم طوال إقامته بمكة، وصحبه في هجرته، ولازمه في المدينة، وشهد معه جميع الغزوات، أسلم على يديه، خمسة من العشرة المبشرين بالجنة، وهم عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف.
واشترى سبعة من المسلمين الذين كان يعذبهم الكفار بسبب إسلامهم، فأعتقهم، منهم بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعامر بن فهيرة، الذي صحبهما في هجرتهما إلى المدينة، ليخدمهما.
وكان رضي الله عنه، أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدلول كلامه وفحواه، فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وقال: ((إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله)) ففهم أبو بكر رضي الله عنه، أن المخير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى فعجب الناس من بكائه لأنهم لم يفهموا ما فهم.
وكان رضي الله عنه، أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس، ((إن أمن الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته)).
وجاء مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه، ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى، فأقبلت إليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يغفر الله لك يا أبا بكر)) ثلاثاً. ثم إن عمر ندم فأتى فنزل أبي بكر فسأل أثم أبو بكر، قالوا لا، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق الصديق رضي الله عنه أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر ما يكره، فجثا على ركبتيه، فقال يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم مرتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي، فهل أنتم تاركون لي صاحبي)) فما أوذي بعدها.
وكان رضي الله عنه أثبت الصحابة عند النوازل والكوارث، ففي صلح الحديبية، لم يتحمل كثير من الصحابة، الشروط التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، حتى إن عمر راجع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وشق عليه الأمر، وراجع أبا بكر، فكان جواب أبي بكر كجواب النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء.
ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، اندهش المسلمون لذلك، حتى قام عمر رضي الله عنه، وأنكر موته، وقال: (والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليبعثنه الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم من خلاف). ولكن أبا بكر رضي الله عنه، جاء فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبله وقال: (بأبي أنت وأمي، طبت حياً وميتا) ثم خرج إلى الناس فصعد المنبر، فخطب الناس بقلب ثابت، وقال: (ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، وتلا قول الله عز وجل: إنك ميت وإنهم ميتون وقوله تعالى: وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين .
ولما أراد أن يُنفذ جيش أسامة، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، راجعه عمر وغيره من الصحابة، أن لا يُسير الجيش من أجل حاجتهم إليه، في قتال أهل الردة، ولكنه رضي الله عنه، صمم على تنفيذه وقال، والله لا أحل راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا.
يقول عنه علي ابن أبي طالب (كنتَ أول القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا، وأحسنهم صحبته وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هدياً وسمتا، وأكرمهم عليه، خلفته في دينه أحسن خلافة حين ارتدوا، ولزمتَ منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنت كالجبل، لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله، أقرب الناس عندك أطوعهم لله وأتقاهم).
وسَأل مرة - أي علي بن أبي طالب – (أخبروني من أشجع الناس، فقالوا: أنت، قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا: لا نعلم. قال: أبو بكر، إنه لما كان يوم بدر، فجعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً، فقلنا من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منا أحدٌ إلا أبو بكر، شاهراً بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يهوى إليه أحد إلا هوى إليه، فهو أشجع الناس).
أما عن إنفاقه في سبيل الدين، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أجود الصحابة، قال الله تعالى: وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى قال ابن الجوزي: أجمعوا على أنها نزلت في أبي بكر.
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نفعني مالٌ قط، ما نفعني مال أبي بكر)) فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي في مال أبي بكر، كما يقضي في مال نفسه ". وأعتق سبعة كلهم يعذبون في الله، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم
أقول قولي هذا وأستغر الله العظيم لي زلكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الحمد لله الواحد القهار ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له مقلب القلوب والأبصار وأشهد ان سيدنا ونبينا محمدا المصطفى المختار ، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطهار وعلى جميع أصحابه الأبرار ، ومن سار على نهجهم واستن بسنتهم واقتفى أثرهم ما أظلم الليل وأضاء النهار .
أيها المسلمون: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد من ارتد من العرب ومنعوا دفع الزكاة، عزم الصديق رضي الله عنه على قتالهم، فراجعه بعض الصحابة في ذلك. ومنهم عمر بن الخطاب، فقال له أبو بكر، أجبار في الجاهلية، خوار في الإسلام يا عمر، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.
فتحرك جيش الصديق، لقتال المرتدين، فاهتزت جزيرة العرب لهذا الحادث الجلل، فكاد أن ينفرط عقد الإسلام، فثبته الله جل وتعالى بالصديق وعاد إلى دائرة الإسلام من كان قد خرج منه بفضل الله، ثم بهذه الوقفة الصديقية في وجه تيار الردة، الذي أوشك أن تعم بلواه أطراف الجزيرة، وربما كانت ستأخذ صوراً أخرى غير صورة منع دفع الزكاة.
أيها المسلمون: إنها القيادة الحكيمة من الصديق رضي الله عنه، والقيادة الحازمة في وقت لا يناسبه إلا السيف، ولعل البعض يظن بأن فتنة المرتدين قد وأدها الصديق رضي الله عنه إلى غير رجعة.
والخليفة أبو بكر قد وأدها في عصره، لكن هذه الردة رجعت وانتشرت وعم خطرها، خصوصاً في وقتنا هذا، وتحتاج إلى وقفة صديقية أخرى.
و لما كان يوم الاثنين السابع من جمادى الآخرة، اغتسل رضي الله عنه، وكان يوماً بارداً، فحمّ خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى الصلاة. "أي أصابته الحمى "
وتوفى رضي الله عنه، ليلة الثلاثاء، بين المغرب والعشاء، ليلة ثلاث وعشرين من جمادى الثانية، سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وله ثلاث وستون سنة.
وكانت ابنته عائشة رضي الله عنها عند رأسه، فلما ثقل تمثلت بهذا البيت:
لعمرك ما يُغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فكشف عن وجهه وقال: ليس كذلك، ولكن قولي: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد .
فقال رضي اللع عنه : انظروا ثوبي هاذين فاغسلوهما وكفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت.
توفي أبو بكر ، توفي خليفة رسول الله ، توفي القائد الجسور ، توفي رضوان الله عليه وفكره مشغول بمن سيأتي بعده ، لأنه رضي الله عنه كان أمر المسلمين يشغله ويأرقه .
خلافته كانت على الناس رحمة ** وأحكامه أحلى من الشهد والقطر
وباغضه لاشك يقتل كافراً ** وإن صام أو صلى إلى البيت والحجر
فنساله سبحانه أن يعيذنا ** من الشك والإشراك والبغض والإصر
ويحشرنا في زمرة المصطفى غداً ** ويجعلنا من قومه السادة الغر
عليه صلاة الله ثم سلامه ** وسحب الرضا تنهل بالعز والبشر
على الآل والأصحاب ما أهدت الصبا ** إلينا أحاديث الأحبة إذ تسري
وما غربت شمس وما ذر شارق ** وما دامت الدنيا إلى آخر الدهر
وكان من بركته أن خلف على المسلمين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن هذا من حسناته رضي الله عنهما وعن جميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ودفن بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رأسه عند كتف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألصق اللحد بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل معه في قبره عمر، وعثمان، وطلحة، وابنه عبد الرحمن.
ولذلك فواجب المسلمين اليوم محبة من أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وموالاة ولي الله الأول في الأمة، ومعاداة من تنقص منه، وسبه، والعلم اليقيني أن الذين يسبون أبا بكر إنما هم زنادقة يريدون هدم الدين، وسب رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه. بل إتهام الله العلي القدير بأنه اختار لرسول الله صلى الله عليه وسلم شرار الخلق، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم سكت عنهم وتزوج منهم، وأحبهم وهم ليسوا أهلاً لذلك. وخلفهم على دينه وأمته ليعبثوا بها، ويبدلوا ويغيروا كما يشاءون.