بسم الله الرحمن الرحيم
لحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر.
وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمنا، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام:
روى الإمام مالك في مسنده عن أبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ قَالُوا بَلَى قَالَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى ))
[أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد ومالك]
يبدو من خلال هذا الحديث الشريف الصحيح، أن الذكر له شأن كبير في حياة المؤمن، كيف لا وقد ورد الذكر في القرآن الكريم في أكثر من ثلاثمائة آية، تؤكد في مجموعها أن الذكر ينبغي أن يدور مع الإنسان في كل شؤونه، وفي كل أحواله، وفي كل أطواره ؛ لأن الذكر عبادة القلب، وعبادة الفكر، وعبادة اللسان.
فمن الذكر أن تذكر الله في آياته الكونية، ومن الذكر أن تذكر الله في آياته التكوينية في أفعاله، ومن الذكر أن تذكر الله في آياته القرآنية، وأن تذكره في نعمه الظاهرة، الخيرات، وفي نعمة الباطنة المصائب.
وأن تذكره في أمره، وأن تذكره في نهيه، وأن تذكره لعباده معرفاً به، وأن تذكره في قلبك، وأن تذكره في لسانك، مسبحاً وحامداً وموحداً ومكبراً، وأن تذكر ربوبيته لك، فتدعوه وحده في أحوالك كلها، وأطوارك جميعها، وأن تذكره ذكراً كثيراً ؛ ليطمئن قلبك، ولينجلي همك، ولينشرح صدرك، وليتسع رزقك، ولينصرك الله على عدوك.
ورد الذكر في القرآن الكريم على عشرة أوجه، منها الأمر به مطلقاً، ومقيداً، نقال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)﴾
[سورة الأحزاب]
وورد أيضاً النهي عن ضده، قال تعالى:
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)﴾
[سورة الحشر آية19]
الأمر به مطلقاً ومقيداً، والنهي عن ضده، وهو النسيان والغفلة.
وقال بعض المفسرين: نسيانهم لله هو سبب نسيانهم لأنفسهم، لم يعرفوا حقيقة أنفسهم، ولا حقيقة مهمتهم، ولا ما ينتظرهم من سعادة أبدية، ولا ما ينتظرهم من عذاب أبدي، نسوا الله فنسيهم، نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
ورد الذكر في القرآن الكريم بمعنى خطير، حيث أن الله سبحانه وتعالى علق الفلاح والفوز بدوام الذكر وكثرته، فقال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) ﴾
[سورة الأنفال]
ومن هذه الوجوه، أن البيان الإلهي جعل الغفلة عن ذكر الله سبباً لخسارة الآخرة، لخسارةٍ لا تعدلها خسارة، لخسارةٍ هي أكبر خسارة على الإطلاق، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) ﴾
[سورة المنافقون]
وما من عطاءٍ يناله المؤمن من ربه أعظم من أن يذكره الله، هو يذكر الله وبعدها الله جل جلاله يذكره، وذكر الله للعبد جزاء ذكر العبد لربه، هو أعظم العطاءات التي ينالها الإنسان من الله عز وجل قال تعالى:
﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) ﴾
[سورة البقرة]
وذكر الله جل جلاله غاية الغايات، وعلة العبادات، ومآل الطاعات، لذلك جعله الله أكبر من كل عبادة، وأعظم من كل قربة وغاية كل عمل، قال تعالى:
﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ(45)﴾
[سورة العنكبوت]
ولذكر الله أكبر..
وقف العلماء عند هذه الآية وقفة متأنية، قال بعضهم: ذكر الله عبادة أكبر من كل عبادة، وإذا ذكرتموه في الصلاة فذكركم لله يقابله ذكر الله لكم، وذكر الله لكم مطلق العطاء، هو أكبر من ذكركم له وذكر الله أكبر من أن يكون معه فاحشة ومنكر، قال تعالى:
﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ(45)﴾
[سورة العنكبوت]
وقال بعض المفسرين: ذكر الله على حقيقته أكبر ما في الصلاة وهذا ما تؤكده الآية الكريمة:
﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾
[سورة طه]
وفي مجمل القول: جعل الله الذكر قرين الأعمال الصالحة وروحها فمتى خلا العمل من الذكر كان كالجسد بلا روح.
في السنة الصحيحة: ورد في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(( مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ ))
[متفق عليه]
وفي لفظ مسلم: عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ ))
[متفق عليه]
وقد قال بعض العلماء: الذكر للقلب كالماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء ؟..
وذكر العبد لربه سبب لذكر الله تعالى له: قال تعالى:
﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) ﴾
[سورة البقرة]
وفي الحديث القدسي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:
((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَة ))
[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد]
(( وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ..))
ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى به فضلاً وشرفاً..
الأمر في الآية الكريمة:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)﴾
[سورة الأحزاب]
الأمر متعلق بالذكر الكثير، لا بمطلق الذكر ؛ لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، بينما المؤمنون يذكرون الله ذكراً كثيراً.
الذكر ـ أيها الإخوة ـ يطرد الشطيان ويقمعه، ويرضي الرحمان ويدني منه، ويزيل الهم والغم عن القلب، قال تعالى:
﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) ﴾
[سورة الرعد آية 28]
ويجلب له الفرح والغبطة، ويقوي القلب والبدن، وينور الوجه والقلب، ويجلب الرزق، ويكسو الذاكر المهابة، والحلاوة والنضرة ويورث الذاكر محبة الله التي هي روح الإسلام، وقطب رحى الدين ومدار السعادة والنجاة.
الذكر: بادئ ذي بدئ يطرد الشيطان ويقمعه..
(( قال بان عباس رضي الله عنهما: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله تعالى خنس ))
ولهذا سُمي الشيطان بالوسواس الخناس.
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا قَطُّ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ))
[انفرد به أحمد]
(( ابن آدم إنك إن ذكرتني شكرتني، وإذا ما نسيتني كفرتني ))
الفائدة الثانية: في الاشتغال بالذكر اشتغال عن الكلام الباطل من غيبة، ونميمة، ولغوٍ، ومدح كاذب، وذم مفتر، فإن اللسان لا يسكت البتة، فإما لسان ذاكر، وإما لسان لاغٍ، قال تعالى:
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)﴾
[سورة المؤمنون]
هذا اللسان، إما أن يكون ذاكراً لله عز وجل، وإما أن يكون لاغياً إن شغلته بذكر الله، انصرفت بذكر الله عن اللغو الذي لا يرضي الله والذي يحملُّ الإنسان من الخطايا والسيئات ما لا قبل له بحمله.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ))
[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد ومالك]
فإذا شغلت لسانك بذكر الله، انصرفت عن ذكر ما سوى الله، وعن المعاصي التي سببها اللسان.
النفس ـ أيها الإخوة ـ إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر.
والقلب إن لم تسكنه محبة الله سكنته محبة المخلوقين.
واللسان إن لم تشغله بالذكر شغلك باللهو.
قال تعالى:
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)﴾
من فوائد الذكر أيضاً: أن في القلب قسوةً لا يذيبها إلا ذكر الله فالقلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة، القسوة والغفلة قرينان ورحمة القلب والذكر قرينان، إنك إن ذكرت الله، اشتق قلبك من كمالاته، اشتق قلبك من رحمته، من حلمه، من لطفه.
إذا ذكرت الله ذابت تلك القسوة، كما يذوب الرصاف في النار فالذكر شفاء للقلب، ودواؤه، والغفلة مرضه وهلاكه.
قال مكحول: ذكر الله تعالى شفاء، وذكر الناس داء.
في جلسة، في سهرة، في نزهة، تحدث عن الله، تجتمع القلوب تتألق الوجوه، تنشرح الصدور.
تحدث عن زيد، وعن عبيد، وعن فلان، وعن علان، إن كان غيناً تقطع قلب الفقراء، وإن كان متفوقاً تقطع قلب المتخلفين.
ذكر الله شفاء، وذكر الناس داء..
وقد قيل:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم فنترك الذكر أحياناً فننتكس
***
قد يشكو المؤمن أحياناً جفافاً في قلبه، أو قسوة في قلبه، أو تصحراً في قلبه، نقول له، أكثر من ذكر الله، قال تعالى:
﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) ﴾
[سورة الرعد آية 28]
وأذكار النبي، جمعها الإمام النووي في كتاب اسمه الأذكار، أذكار النبي في الصباح والمساء، أذكار النبي إذا دخل إلى بيته، إذا خرج من بيته، إذا توجه إلى عمله، إذا أوى إلى فراشه، إذا استيقظ من نومه، إذا لبس ثوباً جديداً، إذا أكل طعاماً، بعد أن ينتهي من الطعام قبل أن يدخل إلى الخلاء، بعد أن يخرج منه، إذا واجه عدواً إذا واده مصيبة..
ذكر الله تعالى هو الدين، ولعل الله عز وجل حينما قال:
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ(23)﴾
[سورة المعارج]
يعني بذلك الذكر ؛ لأن الإنسان مستحيل أن يصلي دائماً، له أعمال وله مهام، كيف يصلي دائماً، هذه الصلاة التي خصها الله بالذكر:
﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾
[سورة طه]
ذكر الله نوع من الصلاة، طبعاً المفروضة لابد من أن تؤدى مع السنن الرواتب، ولكن بين الصلوات، صلتك بالله عز وجل من خلال الذكر، هو ما تعنيه الآية الكريمة:
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ(23)﴾
الذكر أصل في موالاة الله، والغفلة أصل في معاداته، فإن كنت تحب الله تذكره دائماً..
((ابن آدم إنك إن ذكرتني شكرتني ))
فالعبد ما يزال يذكر الله حتى يحبه فيواليه، ولا يزال العبد يغفل عن ربه حتى يبغضه فيعاديه، وما عادى عبد ربه بشيء أشد عليه من أن يكره ذكره، ويكره من يذكره، وما استجلبت نعم الله عز وجل واستدفعت نقمه بمثل ذكر الله تعالى، فالذكر جلاَّب للنعم دافع للنقم.
فائدة ثالثة من فوائد الذكر:
ذكر الله تعالى جنة الدنيا، فقد قال أحد العارفين: في الدنيا جنة من لم يدخلها، لا يدخل جنة الآخرة.
وأشار أحد العلماء إلى هذه الجنة فقال: ما يصنع أعدائي بي جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهو معي لا يفارقتني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وقال عالم آخر: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها، وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل له وما أطيب ما فيها ؟ قال معرفة الله تعالى ومحبته، ودوام ذكره.
وقال أحد الذاكرين: إنه لتمر بي أوقات أقول إذا كان حال أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
الذكر سبب لعطاء الله، فالله جل جلاله، يعطي الذاكر أكثر مما يعطي السائل، ففي الحديث:
(( عن سيدنا عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين ))
والذكر سبب رحمة الله تعالى، وسبب سكينة القلب، وفي صحيح مسلم:
((عَنِ الْأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَه ))
[أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجة وأحمد والدارمي]
هذه مجالس العلم، مجالس الذكر، تأتي من بيتك إلى المسجد تجلس على ركبتيك تستمع إلى تفسير القرآن، أو إلى حديث النبي عليه الصلاة والسلام، أو إلى كتب الفقه، أو إلى سيرة رسول الله تستمع كي تعمل، وأنت في بيت من بيوت الله، أنت في ضيافة الله الجزاء المعجل: حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، أي حفظتهم، وأعانتهم وألهمتهم رشدهم، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، شعرت بسعادة لا توصف، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، لا قلق، ولا هم، ولا حزن، ولا خوف، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَه ".
وفي حديث آخر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ تِرَةً يَعْنِي حَسْرَةً وَنَدَامَةً و قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ التِّرَةُ هُوَ الثَّأْرُ ))
[أخرجه الترمذي وأحمد]
يعني تبعة ومسؤولية، ونقصاً وحساب.
وعن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((ما من ساعة تمر بابن آدم لا يذكر الله فيها إلا تحسر عليها يوم القيامة ))
وإذا أراد العبد أن يقتدي برجل، فلينظر هل هو من أهل الذكر أم من أهل الغفلة، وهل يحكمه الوحي، أم يحكمه الهوى، فإن كان من أهل الغفلة ويحكمه الهوى كان أمره فرطا، هذا لا ينبغي أن يُقتدى به قال تعالى:
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)﴾
[سورة الكهف]
أي وجدناه غافلاً، معنى أغفل: بمعنى وجد، بمعنى علم، بمعنى قضى، بمعنى اتهم، هنا المعنى.. ولا تطع من أغفلنا قلبه: نظرنا إلى قلبه فإذا هو غافل..
﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾
من الذكر أن تذكره بسمه المفرد، قال تعال:
﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (
﴾
[سورة المزمل]
ومن الذكر أن تسبحه، وأن تحمده، وأن توحده، وأن تكبره ؛ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.. وتلك هي الباقيات الصالحات التي قال الله في حقها:
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)﴾
[سورة الكهف]
في بعض التفاسير: من تفسير هذه الآية أنها الأعمال الصالحة..
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)﴾
وعندما وصف الله تسبيحه وحمده وتوحيده وتكبيره بأنها الباقيات والصالحات وصف زينة الحياة الدنيا بشكل ضمني بأنها الفانيات فهي عرض حاضر يأكل منه البرُّ والفاجر، وأنها قد تكون سبب شقاء الإنسان، إذا ألهته عن ذكر الله، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) ﴾
[سورة المنافقون]
أيها الإخوة الكرام حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة الكرام:
ومن الذكر أن تستغفره، قال تعالى:
﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً(12)﴾
[سورة نوح]
ومن الذكر أن تدعوه، فالدعاء مخ العبادة، قال تعالى:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)﴾
[سورة البقرة]
ومن الذكر أن تذكر أمره، ونهيه، وحلاله، وحرامه، ووعده ووعيده، وجنته، وناره، وأن تذكر أعمال الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن تبتعد عن المغضوب عليهم، وعن الضالين المضلين ؛ كي تصحَّ عبادتك.
ومن الذكر أن تذكر آياته القرآنية:
﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78)﴾
[سورة الإسراء]
فلا يحزن قارئ القرآن، ومن تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت.
ومن الذكر أن تذكر آياته التكوينية، أي أفعاله، قال تعالى:
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)﴾
[سورة النمل]
ومن الذكر أن تذكر آياته الكونية، فالتفكر في خلق السماوات والأرض من أرقى العبادات، قال تعالى:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)﴾
[سورة آل عمران]
ومن الذكر أن تذكِّر العباد به، أن تذكر للعباد عن الله محامده وأسماءه الحسنى، وصفاته الفضلى.. أن تعرف العباد بربهم، أن تعرفهم بوجوه كماله، بوحدانيته، أن تعرفهم بكتابه الذي يهدي للتي هي أقوم، أن تعرفهم برسوله صاحب الخلق العظيم، وبسنته وسيرته أن تخاطب عقولهم تارةً، وقلوبهم تارةً أخرى، أن تذكرهم وأن تكون قدوةً لهم، قال تعال:
﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)﴾
[سورة البقرة]
اذكروني لعبادي..
وسعَّ الإمام النووي مفهوم الذكر فقال: اعلم أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل، والتحميد والتكبير وغيرها، بل كل عامل لله تعالى بطاعته فهو ذاكر له.
لذلك عود على بدء عن أبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ قَالُوا بَلَى قَالَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى ))
[أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد ومالك]
قال تعالى:
﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾
[سورة الرعد آية 28]
القلب بدون ذكر قلق، وحزين، وخائف، ومشتت..
(( منْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ))