ملخص الخطبة
1- الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها. 2- من رحمة الله تعالى بعباده في الدنيا. 3- من رحمة الله تعالى بعباده يوم القيامة. 4- مفهوم خاطئ لرحمة الله تعالى.
الخطبة الأولى
في يوم من الأيام وأثناء مرور النبي في أحد طرق المدينة الضيّقة وحولَه حَشد من أصحابه رضي الله عنهم تصادف وجود صبيّ صغير يلعب في ذلك الطريق، فلمّا رأت أمّ الصبيّ القومَ قادمين خشِيت على ولدها أن يوطَأ من شدّة الزحام، فأقبلت إليه تسعَى وتهرول وهي تقول: ابني ابني، فلمّا أخذته وقد رأى الصحابة ذلك المشهَد العاطفي قالوا: يا رسول الله، ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار! فقال لهم النبي : ((لا، ولا يلقي الله حبيبه في النار)) رواه أحمد.
وروى زيد بن أسلم قال: كان النبي في بعض أسفاره فأخذ رجلٌ فرخَ طائر, فجاء الطيرُ فألقى نفسه في حجر الرجلِ مع فرخه, فأخذه الرجل، فقال النبي : ((عجبا لهذا الطائر! جاء فألقى نفسه في أيديكم رحمة لولده، فوالله، لله أرحم بعبده المؤمن من هذا الطائر بفرخه)) رواه البيهقي في شعب الإيمان والبزار.
وعن عمر بن الخطاب أنه قال: قُدِم على رسول الله بِسبي, فإذا امرأة من السبي تبتغي، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله : ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟)) قلنا: لا والله وهى تقدِر على أن لا تطرَحَه، فقال رسول الله : ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) رواه مسلم.
أيها الإخوة في الله، هل تعرفون شيئا عن رحمة الله عز وجل؟ هل تذوَّقتم رحمة الله عز وجل؟ هل استغلَلتم رحمة الله عز وجل؟ هل عرفتم ماذا يريد منا أرحم الراحمين؟
لقد أمرنا الله تعالى بطاعته والدخول في رحمته ومخالفة الهوى والشيطان، ووضع لنا جائزة تلك الطاعة والاستجابة: نعيم دائم وقرة عين لا تنقطع في جنات تجري من تحتها الأنهار، وأخبرنا جل وعلا أن رحمته تسبق غضبه، وأن له مائة، رحمة أنزل واحدة بين سائر مخلوقاته في الأرض, وأخَّر الباقي لعباده يوم الحساب، فعن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخّر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة)) رواه مسلم.
فمن رحمته جل وعلا أنه سهَّل علينا التكاليف الشرعية، فأسهلُ الأعمالِ تدخلك في رحمته، ألم يغفرِ اللهُ لزانية لأنها سقت كلبًا كاد يموت من العطش؟! ألم يدخلِ اللهُ الجنة رجلا أزال غصن شوك من طريق الناس؟! أعطانا الكفارات ليَغفر لنا، وأرشدنا إلى أسهل الأدعية والتسبيحات التي إذا تلفظنا بها ثقلت موازيننا وغُفرت ذنوبنا ولو كانت مثل زبد البحر.
فمن رحمته عز وجل أنه أمرنا بسؤاله ليعطينا، بل أعطانا أعظم العطايا بلا سؤال، ووهب لنا نعمة السمع والبصر والنطق، ومع هذا فقد استخدم كثير من الناس هذه النعم في معصية الله تعالى ولم يشكروها، ومع كل هذا لم يؤيسنا ربنا من رحمته، بل قال: متى جئتني يا عبدي قبلتك، إن أتيتني ليلا قبلتك، وإن أتيتني نهارا قبلتك، وإن تقربت إلي شبرا تقربت منك ذراعا، وإن تقربت مني ذراعا تقربت منك باعا، وإن مشيت إليَّ هرولت إليك، ولو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، وإذا هممت بحسنة فلم تعملها كتبتها حسنة كاملة, وإذا هممت بسيئة فلم تعملها كتبتها حسنة كاملة, فمن أعظم من الله جودا وكرما؟!
فها هو يبسط يده بالليل ليتوب مسيءُ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيءُ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، فمنْ أرحم من الله عز وجل؟!
إن الله يتودد إلينا بالنعم، ونحن لا نستحي منه، فنجاهره بالمعاصي، ألم تسمعوا قول الله عز وجل في الحديث القدسي وهو يقول: ((عبادي يبارزوني بالعظائم، وأنا أكلؤهم على فرشهم، إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويُعبَد غيري، وأرزق ويُشكَر سواي، خيري إلى العباد نازل, وشرهم إليّ صاعد، أتحبّب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغّضون إليَّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ، مَنْ أقبلَ إليَّ تلقَّيته مِن بعيد، ومَنْ أعرض عني ناديته منْ قريب، ومَنْ ترك لأجلي أعطيته فوقَ المزيد، ومن أراد رضاي أردت ما يريد، ومن تصرّف بحولي وقوتي ألنت له الحديد، أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنّطهم من رحمتي، إن تابوا إليَّ فأنا حبيبهم؛ فأنا أحبّ التوابين وأحبّ المتطهرين، وإن لم يتوبوا إليَّ، فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب، مَنْ آثرني على سواي آثرته على سواه، الحسنة عندي بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والسيئةُ عندي بواحدة، فإن ندِم عليها واستغفرني غفرتها له، أشكرُ اليسيرَ من العمل، وأغفرُ كثيرَ الزلل، رحمتي سبقت غضبي، وحلمي سبق مؤاخذتي، وعفوي سبق عقوبتي، أنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها)).
هذا شأن الرب جل جلاله مع عباده، فما شأننا مع أرحم الراحمين؟! ألم تروا ـ يا عباد الله ـ إلى من قتل مائة نفس كيف قبله الله وتاب عليه، لأنه هرول إلى الله، يريد أن يتوب، فأسرع اللهُ إليه بالتوبة والقبول؟! فمن تقرب إلى الله شبرا تقرب الله إليه ذراعا، ومن أتى إلى الله يمشي أتاه الله هرولة.
فمن رحمة الله تعالى أنه نادى أهل الإيمان وأخبرهم أن لو أسلم الكفار الذين قاتلوكم ونكلوا بكم فخلُّوا سبيلهم واعتبروهم إخوانكم، بعد كل الجرائم التي ارتكبوها لو عادوا إلى الله لقبل منهم، أحقا يفعل الرب ذلك؟! نعم, لأن رحمته وسعت كل شيء، ولأنه يحب التوابين, قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38]، وقال تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة: 11]، فكيف بالمسلم لو عاد إلى الله وتاب إليه واستغفره من ذنوبه؟!
هذه بعض صور رحمته التي لا تحصى في الدنيا, أما رحمته في الآخرة فحدث ولا حرج، فمن رحمته جل وعلا يوم القيامة بعباده ما رواه أبو ذر قال: قال رسول الله : ((إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ, وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا, رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا, فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ, فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا, فَيَقُولُ: نَعَمْ, لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِر، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ, فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً, فَيَقُولُ: رَبِّ، قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لا أَرَاهَا هَا هُنَا)), فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. رواه مسلم.
ومن رحمته جل وعلا بعباده يوم القيامة أيضا ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: ((إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ, فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ, حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا, وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ, فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ, وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)) رواه البخاري.
أسأل الله تعالى أن يدخلنا في رحمته ويجنبنا معصيته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، فهو أرحم الراحمين.
الخطبة الثانية
اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمنا، وعليك توكلنا، وبك آمنا، وإليك أنبا, وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا, فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا, وما أسررنا وما أعلنا, أنت المقدم وأنت المؤخر, لا إله إلا أنت. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاعلموا أن أعداء المسلم في هذه الحياة الذين يصدونه عن رحمة الله كثر، فهم يريدون المسلم أن يميل عن الدين ميلا عظيما باتباع الشهوات والوقوع في المحرمات، قال تعالى: يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 26-28].
فمن ابتعد عن الله فالله لا يزال يدعوه إليه ويقبله، يُحكى أن شابا من بني إسرائيل عبد الله عشرين سنة، فأتاه الشيطان فقال له: يا هذا, أعجلتَ في التوبة والعبادة وتركت لذات الدنيا، فلو رجعت فإن التوبة بين يديك، قال: فرجع إلى ما كان عليه من لذات الدنيا، قال: فكان يوما في منزله قاعدا في خلوة، فذكر أيامه مع الله عز وجل فحزن عليها، فقال: تُرى إن رجعت يقبلني الله؟ فنودي أن يا هذا عبدتنا فشكرناك، وعصيتنا فأمهلناك، ولئن رجعت إلينا قبلناك.
أيها الإخوة في الله، لقد أمر الله عز وجل نبيه محمدا أن يخبر العالم أجمع بأن الله غفور رحيم, فقال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر: 49]، بل نادى ربنا جل وعلا كلَّ المجرمين الذين تمادوا في الذنوب والمعاصي وأسرفوا على أنفسهم، ناداهم نداءً خاصا بأن لا يقنطوا من رحمته، فقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[الزمر: 53]. هذه رحمة الله، وهذا هو عفو الله، فلنتب إليه، ولنخجل من مخالفة أمره.
إن كثيرا من الناس ما فهموا معنى رحمة الله، فلذلك تمادوا في المعاصي بحجة أن الله سيغفر الذنوب، وما علموا بأن الله جل وعلا قد اشترط لنيل رحمته قائلا: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ [الأعراف: 156]. فيجب علينا الطاعة والاستجابة لأمره والإتيان بالأسباب التي ننالُ بها رحمة الله عز وجل، فلا تضع موانع تصدك عن الدخول في رحمته، فلا أحد أرحم منه جل وعلا، فمن يرزقنا غير الله؟! ومن يعطينا غير الله؟! والكل لا محالة راجع إليه، فبأي وجه سنواجهه وقد أسبغ علينا نعمه؟! فلنتب إلى الله, ولنتذلل بين يديه لعله يقبلنا، فلنتب إلى الله قبل أن يأتينا الموت فنندم ولات ساعة مندم، وليكن حالنا حال ذلك المتضرع الذي قال:
أنا مذنب أنا مخطئ أنا عاصي هو غافر هو راحم هو كافي
قـابلتُهـن ثلاثـةً بثلاثـةٍ وستغلبنَّ أوصافُه أوصـافي
اللهم إن لم نكن أهلا لدخول رحمتك فإن رحمتك أهلٌ أن تبلغنا، اللهم إن رحمتك وسعت كل شيء ونحن شيء فلتسعنا رحمتك يا أرحمَ الراحمين، اللهم ما عصيناك تجرُّؤا على مخالفتك ولا استهانة بحقك ولا إنكارا لإطلاعك، ولكن غلبتنا أنفسنا، نستغفرك ونتوب إليك، فما قدرناك حق قدرك، وما عبدناك حق عبادتك، جل جلالك وعظم سلطانك وكثرت علينا آلاؤك، فاللهم أرجعنا إليك مخبتين فنحن عبيدك المقصرون، اللهم إنا نسألك بعزك وذلنا وقوتك وضعفنا وفقرنا وغناك عنا إلا رحمتنا هذه الساعة...