مَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ }
يعني: بعد أن جعلناه بشراً مُسْتوياً فيه روح جعلناه يتكاثر من نفسه ٬ وكما خلقناه من خلاصة الطين في الإنسان الأول نخلقه في النسْل من خلاصة الماء وأصفى شيء فيه ٬ وهي النطفة؛ لأن الإنسان يأكل ويشرب ويتنفس ٬ والدم يمتص خلاصة الغذاء ٬ والباقي يخرج على هيئة فضلات ٬ ثم يُصفَّى الدم ويرشح في الرئة وفي الكلى ٬ ومن خلاصة الدم تكون طاقة الإنسان وتكون النطفة التي يخلق منها الإنسان. إذن: فهو حتى في النطفة من سلالة مُنْتقاة. والنطفة التي هي أساس خَلْق الإنسان تعيش في وسط مناسب هو السائل المنوي ٬ لذلك قال سبحانه: { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى } [القيامة: 37 ] ثم جعلنا هذه النطفة { فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ }المؤمنون: 13 ] قرار: يعني مُستقر تستقر فيه النطفة ٬ والقرار المكين هو الرحم خلقه الله على هذه الهيئة ٬ فحصّنه بعظام الحوض ٬ وجعله مُعدّاً لاستقبال هذه النطفة والحفاظ عليها.
{ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }
يقول العلماء: بعد أربعين يوماً تتحول هذه النطفة إلى علقة ٬ وسُمِّيَتْ كذلك لأنها تعلَق بجدار الرحم ٬ والعلماء يسمونها الزيجوت ٬ وهي عبارة عن بويضة مُخصَّبة ٬ وتبدأ في أخذ غذائها منه. ومن عجائب قدرة الله في تكوين الإنسان أن المرأة إذا لم تحمل ينزل عليها دم الحيض ٬ فإذا ما حملتْ لا ترى الحيض أبداً ٬ لماذا؟ لأن هذا الدم ينزل حين لم تكُنْ له مهمة ولا تستفيد به الأم ٬ أمَا وقد حدث الحمل فإنه يتحول بقدرة الله إلى غذاء لهذا الجنين الجديد. ثم يقول سبحانه: { فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً.. } [المؤمنون: 14 ] وهي قطعة صغيرة من اللحم على قَدْر ما يُمضَغ ٬ والمضغة تنقسم بعد ذلك إلى مُخلَّقة وغير مُخلَّقة ٬ كما قال تعالى في الآية الأخرى: { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ.. } [الحج: 5]
المضْغة المخلَّقة هي التي يتكّون منها جوارح الإنسان وأعضاؤه ٬ وغير المخلَّقة تظل كما قلنا: احتياطياً لصيانة ما يتلف من الجسم ٬ كما يحدث مثلاً في الجروح وما شابه ذلك من عطب يصيب الإنسان ٬ فتقوم غير المخلَّقة بدورها الاحتياطي. ثم يقول تعالى: { فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ.. } [المؤمنون: 14 ] لأنه كان في كل هذه الأطوار: النطفة ٬ ثم العلقة ٬ ثم المضغة ٬ ثم العظام واللحم ما يزال تابعاً لأمة متصلاً بها ويتغذّى منها ٬ فلما شاء الله له أنْ يُولَد ينفصل عن أمه ليباشر حياته بذاته؛ ولذلك نجد لحظة انفصال الجنين عن أمه في عملية الولادة مسألة صعبة؛ لأنه سيستقبل حياة ذاتية تستلزم أن تعمل أجهزته لأول مرة ٬ وأول هذه الأجهزة جهاز التنفس. ومن رحمة الله بالجنين أن ينزل برأسه أولاً ليستطيع التنفس ٬ ثم يخرج باقي جسمه بعد ذلك ٬ فإن حدث العكس ونزل برجليه فربما يموت؛ لأنه انفصل عن تبعيته لأمه ٬ وليس له قدرة على التنفس ليحتفظ بحياته الذاتية الجديدة؛ لذلك في هذه الحالة يلجأ الطبيب إلى إجراء عملية قيصرية لإنقاذ الجنين من هذا الوضع ٬ وقبل أن يختنق. ولما كانت مسألة خَلْق الإنسان فيها كثير من العِبَر والآيات ودلائل القدرة طوال هذه المراحل التي يتقلّب فيها الإنسان ٬ ناسب أنْ تختم الآية بقوله تعالى: { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }