لثّمرة الأولى:
من علم معنى لفظ الجلالة، وأنّه المستحقّ للعبادة دون من سواه، حقّق التّوحيد الذي جاءت به الرّسل، وأُنزلت لأجله الكتب، وهو توحيد العبادة، قال عزّ وجلّ:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النّحل: من الآية36]، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وما افتتح الله قصّة نبيّ من الأنبياء إلاّ ذكر نداءه لقومه:{ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.
وغير ذلك من الآيات.
وفي الصّحيحين عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا أَخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ:
(( يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ ))، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ! ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:
(( يَا مُعَاذُ ))، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ! ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:
(( يَا مُعَاذُ ))، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ! قَالَ:
(( هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ؟ ))، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:
(( حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ))، ثُمَّ سَارَ سَاعَة،ً ثُمَّ قَالَ:
(( يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ ))، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ! فَقَالَ:
(( هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ ؟)) قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ! قَالَ:
(( حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ )).
فعلى المؤمن أن يحذر الوقوع في شيء ينقض صرح كلمة التّوحيد، والمعنى الّذي يدلّ عليه هذا الاسم المجيد، لأنّه:
- أوّلاً: كثيرا ما حذّر الله تعالى من الإشراك به فقال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48].
- ثانيا: أنّ من أوقع الآيات على القلوب المنفّرة من الشّرك بالله تعالى قوله تعالى بعد مدح أنبيائه وصفوة خلقه – وهم ثمانية عشر رسولا –: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: من الآية88]، وقال لسيّد الموحّدين محمّد صلّى الله عليه وسلّم:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
- ثالثا: كان إبراهيم عليهم السلام يدعو ربّه متضرّعا قائلا:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: من الآية35]، قال بعض السّلف: ومن يأمن على نفسه الشّرك بعد إبراهيم ؟!
- رابعا: وما من آية تنهى عن الشّرك إلاّ ويتوعّد الله صاحبه بما لا يتوعّد به غيره، كقوله تعالى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: من الآية31]، وقوله تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: من الآية13]، وكقوله تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: من الآية72].
لذلك روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ[1]، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: " أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي[2] ؟ فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ. فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ ! إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (( إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ )) ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ ! مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ ؟ فَيَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ[3] مُلْتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ )).
وفي الصّحيحين عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه يَرْفَعُهُ: (( إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: ( لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ كُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ ؟) قَالَ: نَعَمْ ! قَالَ: ( فَقَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ ).
- خامسا: أنّ الشّرك يبقى مهيمنا على نفوس بعض هذه الأمّة، وفي ذلك كثير من الأحاديث، منها:
ما رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ وَحَتَّى يَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي )).
وفي البخاري عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ – وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ –)).
وغيرها من الأحاديث.
الثّمرة الثّانية:
إذا علمنا معنى الإله، تحقّقت المحبّة، وهو غاية الإسلام، فكيف ذلك ؟
ذلك لأنّ الله من الإله، بمعنى المعبود، والعبادة هي التذلّل، فإنّ الحبّ يملك على العبد قلبه حتّى يُذلّه له تعالى، قال ابن القيّم في "مدارج السّالكين" (3/26): " فإنّ الإله هو الّذي يأله العبادَ حبًّا وذلاًّ وخوفا ورجاءً وتعظيما وطاعة له، بمعنى مألوه، وهو الّذي تألهه القلوب أي: تحبّه وتذلّ له.
وأصل التألّه التعبّد، والتعبّد آخر مراتب الحبّ، يقال عبَّدَه الحبّ وتيّمه، إذا ملكه وأذلّه لمحبوبه، فالمحبّة حقيقة العبوديّة، وهل تمكن الإنابة دون المحبّة والرّضى والحمد والشّكر والخوف والرّجاء ؟ وهل الصّبر في الحقيقة إلاّ صبر المحبّين ؟
وكذلك الزّهد في الحقيقة هو زهد المحبّين، فإنّهم يزهدون في محبّة ما سوى محبوبهم لمحبّته.
وكذلك الحياء في الحقيقة، إنّما هو حياء المحبّين، فإنّه يتولّد من بين الحبّ والتّعظيم، وأمّا مالا يكون عن محبة فذلك خوف محض.
وكذلك مقام الفقر، فإنّه في الحقيقة فقر الأرواح إلى محبوبها، وهو أعلى أنواع الفقر، فإنّه لا فقر أتمّ من فقر القلب إلى من يحبّه.
وكذلك الغنى هو غنى القلب بحصول محبوبه وكذلك الشوق إلى الله تعالى ولقائه فإنه لب المحبة وسرّها.
فمنكر هذه المسألة ومعطلها من القلوب معطل لذلك كلّه، وحجابه أكثف الحجب، وقلبه أقسى القلوب وأبعدها عن الله وهو منكر لخلّة إبراهيم u فإنّ الخلّة كمال المحبّة ".
أروح وقد ختــمــت عـلـى فــؤادي بحُبِّـك أن يحـلّ به سـواكــــا
فلو أنّي استطعت غضضت طرفي فلـم أنظر بـــه حــتّـى أراكـــا
أحـبّـك لا بـبـعـضـي بـل بكلّـــــي وإن لم يُـبقِ حبُّـك لي حـراكا
لذلك روى التّرمذي وأحمد عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ في حديث اختصام الملأ الأعلى، وفيه: قَالَ الله له: قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا )).
وكان ابن عمر يدعو في حجّه: " اللهمّ اجعلني ممّن يُحبّك، ويحبّ ملائكتك، ويحبّ رسلك، ويحبّ عبادك الصّالحين ".
وكان حكيم بن حزام يطوف بالبيت ويقول:" لا إله إلاّ الله، نِعْم الربّ والإله، أحبّه وأخشاه ".
وهذا العبّاس بن عبد المطّلب وقد حضرته الوفاة يوصي ابنه عبد الله:" إنّي موصيك بحبّ الله وحبّ طاعته، وخوف الله وخوف معصيته، وإنّك إذا كنت كذلك لم تكره الموت متى أتاك ".
وجعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم علامة الإيمان الكامل حبّ الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ففي الصّحيحن عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ )).