إذا ذكرت الجنة وما فيها من النعيم المقيم وما لا عين رأت، رأيت أعناق المؤمنين تشرئب ناحيتها، وشعرت بحنينهم إلى أنهارها وجداولها، واشتياقهم إلى الراحة الخالدة في قصورها وخيامها، والتلذذ بما لا يخطر على قلب بشر من أنواع الملذات والمحبوبات التي رضيها الله تعالى لعباده الصالحين فيها.
وقلما يصدق عبد في نيته وعمله لله تعالى إلا ويتطلع تطلعًا عجيبًا إلى نعيم الجنة، فلا يزال يتغنى بحبه ولوعته لابتعاده عنها، ويراها في منامه بمتعها ونعيمها ماثلةً أمامه، فلا يستطيع أن ينسى ما رأى، بل كلما تذكرها وما فيها من ألوان النعم تمثلت أمامه بريحها ولونها وهيئتها، فقد تسعفه ذاكرته لتذكُّر قصورها، وقد تسعفه لتذكُّر حورها وجمالهن، وقد تسعفها لشم طيبها وعطورها، بل ربما تتراءى أمامه حينما يسرح بخياله فتخطف عقله للحظة يفارق فيها الدنيا ليرتفع بروحه إلى السماء السابعة فيعيش لحظة في الفردوس ثم يعود خياله إلى مكانه الذي لم يراوحه.
إننا حين نتحدث عن الجنة لا تكاد الكلمات ولا العبارات تخدم المعاني التي تنطوي عليها عقولنا وقلوبنا، بل إننا لا نكون كاذبين إن ادعينا أن أحدًا لا يستطيع أن يرسم الصورة الحقيقية لجنة الخلد كما صنعها الله تعالى، فما لا يخطر على قلب البشر لا تستطيع أن تصيغه يد فنان، ولا أن تصفه يراع كاتب ومحبرته، ولا أن تأتي ولو ببعض من أوصافها أبيات شاعر أو أديب، بل إنه كلما اجتهد أحد من هؤلاء في رسم تلك الصورة تبيّن له مدى الإعجاز الذي ورد في قوله -صلى الله عليه وسلم- عن رب العزة: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". حيث يظهر مدى عجز البشر في رسم هذه الصورة على ما خلقها الله تعالى عليه.
وليس العجب من إبداع الخالق -جل وعلا- في خلق دار المقامة وتزيينها بما لا تدركه العقول ولا الأفهام، فهو قادر على كل شيء ولا يعجزه العظيم ولا الحقير، وإنما العجب كل العجب في المعرضين عن ربهم وهم يعلمون مدى قدرته في إنعاش أفئدتهم بنعيم يتمتعون فيه أبد الآبدين، في خلود دائم بلا موت، ذلك الخلود الذي أعجز عقول العقلاء، وحيّر ألباب الأذكياء، فهو بغير مدة زمنية محددة، فمهما تناهى إلى عقل البشر ومهما احتمل ذلك العقل من عدد فإن الخلود شيء آخر غير ما أدركه العقل، فهو أضعاف أضعاف ما يقدر العقل على استيعابه، أو القلب على احتماله، ومهما تطاول الزمان على أهل النعيم المقيم في الجنة، فإن أبدانهم لا تزيد مع الزمان إلا نضارة، ووجوههم لا تزيد بمرور الأيام والسنين والقرون إلا جمالاً وبهجة، وأجسادهم لا تزيد إلا قوة وشدة، فلله كيف يمكن للعقل أن يتصور هذه الحياة التي لم يعتدها طيلة سني عمره!! بل كيف له أن يتخيل هذا الجزاء العظيم على أعماله القليلة وطاعاته التي يشوبها كثير من التقصير في حق الله تعالى!! ولكنه فضل الله -عز وجل- الذي لا يحده حد، وقدرته سبحانه التي لا يحصيها إحصاء..
إن العبد الصالح إذا أنهى موسم عباداته وطاعاته، وشعر بقرب نفسه من ربه وجزائه العميم وفضله الجزيل، عليه أن يتذكر أن مفتاح بلوغه لهذا الجزاء، واستيفاء الأجر من مولاه الجليل، مفتاح ذلك هو الاستمرار على الطاعة والديمومة عليها، فكلما فترت نفسه عن أدائها أو تقاعست عن القيام بها حق القيام تذكر ما خبأه الله تعالى له في جنات النعيم، فكان ذلك التذكر والتخيل لما فيها من راحة ولذة حاديًا له إلى مزيد من البذل والعطاء والطاعات والانصياع لأمر الله -عز وجل- والتخلي عن السيئات والخطيئات.
وقد جمعنا لخطبائنا الكرام في هذا الأسبوع مجموعة من المختارات حول الجنة وما فيها من النعيم المقيم، وما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، مبينين بعضًا من أوصافها التي لا تستوعبها الكلمات ولا الأوصاف، ومذكرين ببعض أسباب دخول الجنة، سائلين الله تعالى لنا ولكم أن يرزقنا -عز وجل- الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم فيها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.