16- فضلُ العمرةِ في رمضان
عَنِ ابنِ عَباسٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: «لما رَجَعَ النَّبيُّ ﷺ من حَجَّتِه قَالَ لأُمِّ سِنَانٍ الأَنْصَارِيَّةِ: مَا مَنَعَكِ مِنَ الحجِّ؟ قَالَتْ: أَبُو فُلان – تَعْني: زَوْجَهَا – كَانَ لَهُ نَاضِحَان – أَيْ: بَعِيران يَسْقِي عَلَيهِما - حَجَّ على أَحَدِهِمَا، والآخَرُ يَسقِي أَرضَاً لَنَا، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «فَإِنَّ عُمْرَةً في رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً مَعي». رواه الشيخان( ).
وفي رِوايةٍ لهما: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : «فإِذا جَاءَ رَمَضَانُ فاعتَمرِي فإنَّ عُمْرةً فيه تَعْدِلُ حَجَّة»( ).
وعَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ رَضيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبيَّ ﷺ قَالَ لها: «اعْتَمرِي في رَمَضَانَ فإنَّها كَحَجَّة» رواه أبو داود( ).
وَجَاءَ مِثْلُهُ عَنْ جَابرٍ وَأَنَسٍ وَأَبي هُرَيْرَةَ وَوَهْبِ بنِ خَنْبَشٍ رَضيَ الله عَنْهُمْ( ).
قَوْلُهُ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «فإنَّ عُمْرةً فيه تَعدلُ حَجَّة» قَالَ ابنُ بَطَّال رَحِمهُ اللهُ تَعَالى: «يَدُلُّ على أَنَّ الحَجَّ الَّذِي نَدَبَها إِليهِ كَانَ تَطَوُّعاً؛ لإِجْماعِ الأُمَّةِ على أَنَّ العُمْرَةَ لا تُجْزيءُ مِنْ حَجَّةِ الفَريضَةِ... وقَوْلُهُ (كَحَجَّة) يُرِيدُ في الثَّوابِ، والفَضَائِلُ لا تُدْرَكُ بِالقِياس، واللهُ يُؤْتي فَضْلَهُ مَنْ يَشَاء»( ).
الفوائد والأحكام:
الأول: رَحمةُ الله تَعَالى بِعِبَادِهِ وفَضْلُهُ عَلَيهِم؛ إذْ رَتَّبَ أُجُورَاً عَظِيمَةً عَلى أَعْمالٍ قَليلةٍ فَنَحْمِدُ اللهَ تَعَالى كَثيراً.
الثاني: فيه حِرْصُ النَّبيِّ ﷺ عَلى أُمَّتِّهِ، وتَفَقُّدُ رَعِيَّتِهِ، والسُّؤالُ عَنْهُم، وقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أَنْصَحَ النَّاسِ للنَّاسِ، وهَكَذَا يَجِبُ عَلى كُلِّ مَنْ وَلاَّهُ الله تَعَالَى رَعِيَّةً أَنْ يَرْفُقَ بِهم، وَيَنْصَحَ لَهم، وَيَتَفَقَّدَ أَحْوَالَهم، وَيَعْمَلَ مَا يُحقِّقُ مَصَالحَهُم الدِينِيَّة والدُّنْيَوِيَّة.
الثالث: أَنَّ العُمرَةَ في رَمَضَانَ لا تُجزيءُ عَنْ حَجَّةَ الإِسْلامِ، فَهي تَعدِلُ حَجَّةً في الثَّوابِ، ولا تَقُومُ مَقَامَهَا في إِسْقَاطِ الفَرْضِ، وَقَدْ أَجْمعَ العُلماءُ على ذلك( ).
الرابع: أَنَّ ثوَابَ العَمَلِ يَزيدُ بِزيَادَةِ شَرَفِ الوَقْتِ، كَما يَزيدُ بِحُضُورِ القَلْبِ وبِخُلُوصِ القَصْدِ( ).
الخامس: أَنَّ هَذا الحَديثَ وأَمثَالَهُ، مِثْلُ مَا جَاءَ أَنَّ (قُلْ هُوَ الله أَحَدٍ)، تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرآنِ أَيْ: في الثَّوَابِ، ولا تَقُومُ مَقَامَ قِرَاءَةِ القُرآن( ).
السادس: أَنَّ العُمرَةَ هُنَا أَدْرَكَتْ مَنْزلَةَ الحَجِّ، لِكونِهَا في رَمَضَانَ وهُوَ مَوسِمٌ عظيمٌ، «فاجتَمَعَ للمُعتَمِرِ في رَمَضَانَ: حُرمَةُ شَهْرِ رَمَضَانَ، وحُرمَةُ العُمْرةِ، وصَارَ مَا في ذَلكَ مِنْ شَرَفِ الزَّمَانِ والمَكَانِ يُنَاسِبُ أَنْ يُعْدَلَ بما في الحجِّ من شرَفِ الزَّمانِ وهُو أَشْهُرُ الحَجِّ وشَرَفُ المَكَانِ»( ).
إِضَافَةً إِلى مَا في العُمْرَةِ في رَمَضَانَ مِنَ المشَقَّةِ، وشِدَّةِ النَّصَبَ مِنْ عَمَلِ العُمْرَةِ في الصَّوْمِ، أَو الفِطْرِ لأَجْلِ السَّفَرِ إِلى ذَلكَ ثُمَّ القَضَاءِ، ولَيْسَ في العُمْرَةِ في غَيرِ رَمَضَانَ مِثلُ هَذهِ المشَقَّةِ. وقَدْ قَالَ النَّبيُّ ﷺ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وقَدْ أَمَرَهَا بالعُمْرَة: «إِنَّها عَلى قَدْرِ نَصَبِك، أَو قَالَ: عَلى قَدْرِ نَفَقَتِك» رواه مسلم( ).
السابع: أَنَّ هذا الفَضلَ يَحوزُهُ من أدَّى مَنَاسِكَ العُمرَةِ في رَمَضَانَ ولَوْ لمَ يَبقَ في مَكَّةَ بَلْ رَجَعَ فَورَاً بَعدَ عُمرَتِهِ.
الثامن: لا يَصِحُّ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ هَذهِ الأحَاديثِ الإِكثَارُ مِنَ العُمْرَةِ في رَمَضَانَ بِالخُرُوجِ إلى الحِلِّ والإتيَانِ بِعُمْرَاتٍ كَثيرَةٍ في الشَّهْرِ الوَاحِدِ، أو رُبَّما كَرَّارَهَا في اليَومِ الواحِدِ، وهَذَا العَمَلُ الَّذِي انتَشَرَ في هذا الزَّمَنِ خِلافُ السُّنَّةِ، وخِلافُ فِعْلِ الصَّحَابةِ رَضيَ اللهُ عَنْهُمْ، فَلم يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُم أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ من الاعْتمارِ في السَّفَرِ الوَاحِدِ( ).
التاسع: أَنَّهُ يَجبُ عَلى مَنْ اعْتَمَرَ في رَمَضَانَ، واخْتَارَ المجَاورَةَ عِنْدَ بَيتِ الله الحرَامِ في رَمَضَانَ أَو في العَشْرِ الأَخِيرَةِ مِنْهُ أَنْ يَحفَظَ جَوَارِحَهُ مما حَرَّمَ اللهُ تَعَالى؛ لأَنَّ السَّيئَةَ في مَكَّةَ أَعْظَمُ مِنْهَا في غَيْرِهَا، فَكَيفَ وَقَدْ انْضَمَّ إلى ذَلكَ حُرمَةُ رَمَضَانَ؟
العاشر: أَنَّهُ يَجبُ عَلى مَنْ اصْطَحَبَ أَهْلَه وَأَوْلَادَهُ مَعَهُ للمُجَاوَرَةِ عِنْدَ الحَرَمِ في رَمَضَانَ أَنْ يحفَظَهُم مِنَ الوُقُوعِ في المحَرَّمَاتِ؛ لِئلَّا يُجاوِرَ عِنْدَ الحرَمِ يُرِيدُ الأَجْرَ، فَيَحْمِلُ مِنَ الوِزْرِ أَكْثَرَ مِنَ الأَجْرِ بِسَبَبِ تَفْريطِهِ وتَضْييعِهِ لأَهلِهِ وَأَوْلادِه.
الحادي عشر: إِذَا أَحْرَمَ بالعُمْرَةِ، وَوَصَلَ مَكَّةَ وهُو صَائِمٌ، وَكَانَ بَينَ أَمْرَين: أَنْ يُفْطِرَ ويُؤَدِّيَ العُمْرَةَ، أَوْ يَنْتَظِرَ إِلى الغُرُوبِ، فَإِذَا أَفْطَرَ أَدَّاهَا، فَالأَفْضَلُ أَنْ يُفْطِرَ في النَّهَارِ ويُؤَدِّيَ عُمْرَتَه؛ لأَنَّ الأَفْضَلَ في العُمْرَةِ أَنْ تُؤَدَّى حِينَ الوُصُولِ إِلى مَكَّةَ كَما فَعَلَ النَّبيُّ ﷺ.