14- إِفطَارُ الحائضِ وقضاؤُها
عَنْ مُعَاذَةَ بنْتِ عَبدِالله العَدَويّةِ رحِمَهَا الله تَعالى قَالَتْ: سَألْتُ عَائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا فَقُلتُ: «مَا بَالُ الحَائِضِ تَقْضِي الصَّومَ ولا تَقضِي الصَّلاة؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قُلْتُ: لَستُ بِحَرُورِيّةٍ، ولَكِنّي أَسأَل، قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقضَاءِ الصّومِ ولا نُؤْمَرُ بِقضاءِ الصَّلاة» رواه الشيخان( ).
وفي رِوايةٍ للتّرمِذِيِّ عَنْ مُعَاذَةَ سَأَلَتْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا فقَالَتْ: «أَتقضِي إِحْدَانا صَلاتُها أَيّامَ مَحِيضِها؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيّةٌ أَنْتِ؟ قدْ كَانَت إِحْدَانَا تَحيضُ فَلا ُنؤمَرُ بقَضَاء»( ).
وعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كُنّا نَحِيضُ على عهدِ رسُولِ الله ﷺ ثمَّ نَطْهُرُ، فَيأْمُرُنَا بِقَضَاءِ الصِّيامِ ولا يَأْمرُنَا بِقَضَاءِ الصَّلاة» رَوَاهُ التِرمذِيُّ وقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. ثُم قَالَ التِرمذِيُّ: «والعَمَلُ عَلَى هَذا عِندَ أَهْلِ العِلْمِ لا نَعلمُ بينهَم اختِلافاً أنَّ الحَائِضَ تَقضِي الصّيامَ ولا تَقضِي الصَّلاة»( ).
وقولُ عائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا: أَحَرُورِيَّةٌ أنتِ: هوَ استِنكَارٌ لِسُؤالِها هذا؟ والحَرُورِيّةُ فِرقَةٌ مِن الخَوارِجِ مَنسُوبة إلى بَلدَةٍ تُسَمَّى (حَرُوْرَاء) وهي بَلْدَةٌ قَريبَةٌ مِنَ الكُوفَةِ، كَانَ أَوَّلُ خُرُوجِهِم مِنها، وكَانَ عِندَهُم تَنَطُعٌ وتَشَدُّد( )، وَبَعضُهم كَانَ يُوجِبُ عَلى الحَائِضِ قَضَاءَ الصَّلاةِ الفَائِتَةِ زَمَن الحَيضْ، خِلافاً للأَحَادِيثِ والإِجمْاعِ؛( ) ولذلك سَأَلَتهَا عَائِشَةُ بهذه الصِّيغَةِ الاستِنكَارِيَّة، أيْ: هَلْ أَنْتِ مِنهُم؟
الفوائد والأحكام:
الأول: تَحرِيمُ التَّنَطُّعِ والغُلُوِ في الدِّين، ووجُوبُ الوُقُوفِ عِندَ النُّصُوصِ والعَمَلِ بها، والأَخذِ بِرُخَصِ الله تَعَالى التي رَخَّصَهَا لِعِبَادِهِ، وكَما أَنَّ الغُلُوَ مَذْمُومٌ، فَالتَفَلُّتُ من الدّينِ مَذمُومٌ أيْضاً، والخِيَارُ في ذلك الوَسَطُ، وهوَ الأَخذُ بالنُّصُوصِ كُلِّها.
الثاني: مَشرُوعيَّةُ الإِنكَارِ على مَن تَشَدَّدَ في الدِّين بِالأُسلوبِ المنُاسِبِ الَّذي يُحقِقُ المقصُودَ ولا يَترتَّبُ عَليهِ مَفَاسِدُ أَعْظَم.
الثالث: أَنَّهُ يَنبَغِي للسَّائلِ إذا ظَنَّ بِه المُفتِي تَعَنُتاً بِسَببِ سُوءِ مَسْأَلَتِه، أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ مُسْتَرشِدٌ لا مُتَعَنِّت، كما قَالَتْ مُعَاذةُ: «لَستُ بِحَرُورِيةٍ ولكنِّي أَسْأَل» وحِينَئذٍ يَجبُ على المُفْتِي إِجَابَتهُ بالدَّليلِ الَّذي يُزيلُ الإِشْكَال، كَما فَعَلَتْ عَائِشَةُ رَضيَ اللهُ عَنْهَا.
الرابع: أَنَّ أَعْظَمَ عِلَّةٍ تُعَلَّلُ بِها الأَحكَامُ الشَّرعيَّةُ هي أَوَامِرُ الله تعالى وأوَامِرُ رَسولِه ﷺ، وبِذَلِكَ عَلَّلَتْ عَائِشَةُ رَضيَ اللهُ عَنْهَا هذا الحُكْمَ، وأجَابَتْ السَّائِلَةَ بأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَأمُرُهُنَّ بِقضَاءِ الصَّومِِ ولا يَأمُرُهُنَّ بِقضَاءِ الصَّلاة، يَعنِي: لَو كَانَ قَضَاءُ الصّلاةِ وَاجِباً لأَمَرَهُنَّ بِذلكَ رَسُولُ الله ﷺ؛ لأنَّهُ عَليْه الصّلاةُ والسَّلامُ أَنْصَحُ الأُمَّةِ للأُمَّة، ومَا تَرَكَ شَيْئاً إلاَّ بَيّنهُ ووضَّحَه( ). وَهَكَذَا يَجبُ أَنْ يَكُونَ المسْلِمُ مُسْتَسْلماً لله تَعَالى، مُعَظِّماً لِشَرِيعَتِه، وَقّافاً عِنْدَ النُصُوصِ الثَّابِتَةِ، يَفْعَلُ المأْمُورَاتِ لأَنَّ الشَرِيعَةَ أَمَرَتْ بها، ويَجْتَنِبُ المحْظُوراتِ لأنَّ الشَرِيعَةَ نَهَتْ عَنْهَا، ولَوْ لَم يُدْرِكْ حِكْمَةَ ذَلكَ وعِلَّتَه.
الخامس: قَالَ ابنُ عبْدِ البرِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: «وهَذا إِجمَاعٌ: أَنَّ الحَائِضَ لا تَصُومُ في أيَّامِ حَيْضَتِها وتقْضِي الصَّومَ ولا تَقْضِي الصَّلاةَ، لا خِلافَ في شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ والحَمْدُ لله، وَمَا أَجْمعَ المُسْلمُونَ عَلَيهِ فَهُو الحَقُّ والخَبَرُ القَاطِعُ لِلْعُذْرِ»( ).
السادس: أنَّ عَدَمَ تَكْلِيفِ الحَائِضِ بقَضَاءِ الصّلاَةِ مِنْ يُسْرِ الشَّريعَةِ وسَمَاحَتِهَا، ومِنْ رَحْمَةِ الله تَعَالى بالنِّسَاءِ؛ إذْ إِنَّ الصّلاةَ مُتَكرِّرَةٌ، ويَشُقُّ على النِّسَاءِ قَضَاؤُهَا، وواجِبٌ على النِّسَاءِ شُكْرُ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلى هَذَا اليُسْرِ والتَّخْفِيفِ عَلَيْهِنَّ.
السابع: إذا طَهَرتِ المرْأَةُ بَعْدَ طُلُوعِِ الفَجْرِ مُبَاشَرَةً فَلا يَصِحُّ مِنْها صِيَامُ ذَلِكَ اليَومِ، وعَلَيْهَا القَضَاءُ؛ لأنَّ الفَجْرَ دَخَلَ عَلَيْها وهيَ حَائِضٌ.
الثامن: إِذا حَاضَتِ المرْأَةُ قبْلَ الغُرُوبِ بِلَحْظَةٍ بَطَلَ صِيَامُهَا وَعَليْها القَضَاء( ).
التاسع: إِذا حَاضَتِ المرْأَةُ بَعْدَ الغُرُوبِ بِلَحْظَةٍ صَحَّ صَوْمُهَا ذَلكَ اليَوم.
العاشر: إِذا أَحَسَّت المرْأَةُ بانْتِقَالِ دَمِ الحَيْضِ وَهيَ صَائِمَةٌ، أَو بآلامِهِ لَكنْ لم يَخْرُجْ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ صَحَّ صَوْمُها( ).
الحادي عشر: يُسْتَفَادُ مِنْ الحَدِيثِ أَنَّ لِلْمَريضِ تَرْكَ الصِّيامِ وَلَوْ كَانَ فيه بَعضُ القُوَّةِ إِذا كَانَ يَدْخُلُ عَليهِ المشَقَةُ والخَوْفُ مِنْ ازْدِيادِ المرَضِ، فَالحَائِضُ لَيسَتْ تَضْعُفُ عَنِ الصِّيامِ ضَعْفاً وَاحِداً، وإِنَّما يَشُقُّ عَليهَا مِنْ أَجْلِ نَزْفِ دَمِها، وَنَزْفُ الدَّمِ مَرَض( ).