10- مراحلُ فَرْضِ الصيام
عَن الْبَرَاءِ t قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائماً فَحَضَرَ الإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِي، وإِنَّ قَيْسَ بنَ صِرْمَةَ الأَنْصَاريَّ كَانَ صَائماً فَلَما حَضَرَ الإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ لها: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لا، ولَكن أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَينَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُه، فَلَما رَأَتْهُ قَالتَ: خَيْبَةً لَكْ – أَيْ فَاتَكَ ما تَطْلُبُهُ وهُوَ الطَّعَامُ- فَلَما انْتصفَ النَّهارُ غُشِيَ عَلَيه، فَذُكِرَ ذَلكَ لِلنَّبيِّ ﷺ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ] {البقرة:187}. فَفَرحُوا بِها فَرَحاً شَدِيداً، وَنَزَلَتْ: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ] {البقرة:187} رواه البخاري( ).
وعَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ قَالَ: «أُحِيْلَتِ الصَّلاةُ ثَلاثَةَ أَحْوَالٍ، وأُحِيلَ الصِّيامُ ثَلاثةَ أحوالٍ... - فذكَرَ أحوالَ الصَّلاةِ - ثُمَّ قَالَ في الصَّومِ: إنَّ رسولَ الله ﷺ كانَ يَصُومُ ثَلاثَةَ أيامٍ مِنْ كُلِّ شَهْـرٍ، ويَصُومُ يومَ عَاشُـورَاءَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] {البقرة:183} إِلى قَولِه: [طَعَامُ مِسْكِينٍ] فَكَانَ مَنْ شَاءَ أن يَصُومَ صَامَ، ومَنْ شَاءَ أن يُفْطِرَ ويُطعِمَ كلَّ يومٍ مِسكِيناً أَجْزَأَهُ ذَلك، وهَذا حَلالٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى: [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ] إِلى [أَيَّامٍ أُخَرَ] فَثبَتَ الصِّيامُ على مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ، وعلى المُسَافرِ أَنْ يَقضِي، وثَبَتَ الطَّعامُ للشَّيْخِ الكَبيرِ والعَجُوزِ الَّلذَيْنِ لا يَستَطِيعَانِ الصَّومَ» رواه أبو داود( ).
وفي رِوايةٍ لأَحمد: «وَأَما أَحْوَالُ الصِّيامِ فإِنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَدِمَ المدِينةَ فَجَعَلَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيامٍ – وَقَالَ يَزِيدُ بنُ هَارُون: فَصَامَ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْراً مِنْ رَبيعٍ الأَولِ إِِلى رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيامٍ – وَصَامَ يَوْمَ عَاشُورَاء، ثُم إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ عَلَيهِ الصِّيامَ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] إِلى هَذِهِ الآيةِ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] قَالَ: فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَطْعَمَ مِسْكيناً، فَأَجْزَأَ ذَلكَ عنه، قَالَ: ثُم إِن اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ الآيَةَ الأُخْرَى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ] إِلى قَوْلِهِ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] قَالَ: فَأَثْبَتَ اللهُ صِيامَهُ على المقِيمِ الصَّحِيحِ، وَرَخَّصَ فيهِ لِلْمَريضِ والمسَافِرِ، وثَبَتَ الإِطْعَامُ لِلكَبيرِ الَّذِي لا يَسْتَطِيعُ الصِّيامَ، فَهَذَانِ حَوْلان، قَالَ: وكَانُوا يَأْكُلونَ ويَشْرَبُونَ ويَأْتُونَ النِّسَاءَ ما لم يَنَامُوا، فإِذا نَامُوا امْتَنَعُوا، قَالَ: ثُم إِنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ له: صِرْمَة ظَلَّ يَعْمَلُ صَائِماً حتَّى أَمْسَى، فَجَاءَ إِلى أَهْلِهِ فَصَلَّى العِشَاءَ، ثُم نَام فَلَم يَأْكُل ولم يَشْرَبْ حَتَّى أَصْبَح، فَأَصْبَحَ صَائِماً، قَالَ: فَرَآهُ رَسُولُ الله ﷺ وقَدْ جُهِدَ جَهْداً شَدِيداً قَالَ: مَالي أَرَاكَ قَدْ جُهِدْتَ جَهْداً شَدِيداً؟ قَالَ: يا رَسُولَ الله، إِنِّي عَمِلْتُ أَمْسِ فَجِئْتُ حِينَ جِئْتُ فَأَلْقَيتُ نَفْسي، فَنِمْتُ وَأَصْبَحْتُ حِينَ أَصْبَحْتُ صَائِماً، قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ قَدْ أَصَابَ مِنْ النِّسَاءِ مِنْ جَارِيَةٍ أَو مِنْ حُرَّةٍ بَعْدَما نَامَ، وَأَتَى النَّبيَّ ﷺ فَذَكَرَ ذَلكَ له، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ] إِلى قَوْلِه: [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ]».
الفوائد والأحكام:
الأول: أَنَّ مِنْ رَحْمَةِ الله تَبَارَكَ وتَعالَى التَّخْفيفَ عَنْ عِبَادِه المؤْمِنينَ؛ إِذْ كَانَ مِنْ مَراحِلِ فَرْضِ الصِّيامِ: أَنَّ مَنْ نَامَ عَقِبَ غُروبِ الشَّمْسِ أَوْ صَلَى العِشَاءَ أَمْسَكَ عَن المفْطِراتِ إلى غُروبِ شَمْسِ اليَومِ الثَاني، ولَحِقَهُمْ في ذَلِكَ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ كَما في قِصَّةِ هَذا الصَّحَابي t؛ فَخَفَّفَ اللهُ تَعالى عَنْهُم بِإبَاحَةِ الأَكْلِ والشُّربِ والنِّسَاءِ في لَيالي رَمَضَانَ سَواءٌ نَامَ الصَّائِمُ عَقِبَ الغُروبِ أمْ لَم يَنَم، فَكَانَ ذَلكَ رُخْصَةً مِنَ الله تَعالى فَلَهُ الحَمْدُ ولَهُ الشُّكْرُ.
الثاني: خِدمَةُ المرْأَةِ زَوْجَهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ العِشْرَةَ والتَبَعُّل.
الثالث: وَرَعُ الصَّحَابَةِ رَضي الله عَنْهَم، وامْتِثَالُهم لأَوَامِرِ الله تَبَارَكَ وتَعَالى، وخَوفُهُمْ مِنْ مُخالَفَتِها، ومُرَاقَبَتُهمْ لله عَزَّ وَجَلَّ في السِّرِّ والعَلَن، وقَدْ جَاءَ في بَعْض رِوايَاتِ الحَديثِ: «فَأَبْطَأتْ عَلَيه – أيْ: زَوْجَتُهُ – فَنَامَ، فَأَيْقَظَتْهُ فَكَرِهَ أَنْ يَعْصيَ الله وَرسُولَهُ وَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ، وأَصْبَحَ صَائماً»( ) وفي رِوايَةٍ أُخْرى: «فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَأَغْفَى، وجَاءَتْهُ امْرأَتُهُ بِطَعَامِهِ، فَقالَتْ لَه: كُلْ، فَقالَ: إِنّي قَدْ نِمْتُ، قَالتْ: إِنَّكَ لَم تَنَم، فَأَصْبَحَ جَائِعاً مَجهُوداً»( ).
الرابع: مَشروعِيَّةُ الفَرَحِ بِرُخْصَةِ الله عَزَّ وجَلَّ، وأَنَّ ذلِكَ لا يُنَافي الأَخْذَ بِعَزائِمِه؛ فَالكُلُّ منْ عِنْدِ الله تَعَالى وَهُوَ عَزَّ وجَلَّ يُحِبُّ أَنْ تُؤتَى رُخَصُهُ كما يُحبُّ أن تُؤتَى عَزَائِمُه.
الخامس: رَحْمةُ الله تَبَارَكَ وتَعَالى بِعبَادِهِ؛ إِذْ يَشرَعُ لَهمْ مَا يَنفَعُهُم مِنْ العَبَادَاتِ التي فيها صَلاحُ قُلوبِهِم، وزَكَاءُ نُفُوسِهِم.
السادس: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يأَخُذُهُم بالتَّدرجِ فيما لم يَعتَادُوا عَلَيه؛ كَما جَاءَ فَرضُ الصَّلاةِ عَلى أَحْوَالٍ ثَلاثَةٍ وكَذلِكَ الصَّومُ، وَكَذَلِكَ النَّهيُ عَنِ الخَمرِ وَقَدْ اعْتَادُوهَا جَاءَ تَحرِيمُهَا بالتَّدَرُّجِ رَحْمَةً مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ وتَخفِيفاً عَلى عِبَادِهِ، فَلَهُ الحَمْدُ كَثيراً.
السابع: أَنَّ فَريضَةَ الصِّيامِ جَاءَتْ بالتَّدَرُّجِ؛ لأن النَّاسَ مَا كَانُوا مُعْتَادِينَهُ في أوَّلِ الإِسْلامِ، كَما جَاءَ في الرِوايةِ الثَّانيةِ للحَدِيثِ أنَّ مُعَاذاً قَالَ: «وَكَانوا قَوماً لم يتَعَوَّدُوا الصِّيام، وكَانَ الصِّيامُ عَليهِم شَدِيداً»( ).
الثامن: أَنَّ الصِّيامَ فُرِضَ على ثَلاثِ مَراحِلَ:
الأولى: صِيامُ ثَلاثةِ أيامٍ مِنْ كُلِّ شَهرٍ وعاشُورَاءَ.
الثانية: التَّخييرُ في صومِ رمضانَ بينَ الصِّيامِ وبينَ الإِطْعَامِ لمن لا يريدُ الصِّيام.
الثالثة: فَرضُ الصيامِ على المُستَطِيعِ، والتَّخْفِيفُ عَنْ الشَّيخِ الكَبيرِ، والعَجُوزِ الَّلذَيْنِ لا يَستَطِيعانِ الصِّيامَ بالإِطْعَامِ، ويَدْخُلُ في ذلك المريضُ مرَضَاً لا يُرجَى بُرْؤُهُ.