درس من وداع رمضان – دوام انفتاح أبواب الخير – أنواع من نوافل الصيام – القيام بعد رمضان – أهمية السنن الرواتب
الخطبة الأولى
أما بعد قال الله تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [يونس:58].
إن من أعظم نعم الله تعالى على عباده المؤمنين توفيقهم للطاعات وفعل الخيرات من صيام وقيام وقراءة للقرآن وصدقة وغير ذلك ومن أعظم هذه النعم أن يبلغهم شهر رمضان ذلك الموسم العظيم الحافل بالبركات والهدى والنور والفرقان, ذلك الموسم العظيم الذى تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران, ولله فيه عتقاء من النيران نسأل الله أن يجعلنا منهم. كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان, فإذا ما بلغوه وصاموه وأحيوا ليله حتى أتموه سألوا الله تعالى ستة أشهر أن يتقبله منهم.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتقبل منا أجمعين ويتوب علينا أجمعين وأن يبلغنا رمضان سنوات كثيرة عديدة عامرة بطاعته سبحانه مزدهرة بعبادته.
أيها المؤمنون: هذا هو رمضان ولى وانصرم كأنما هو طيف عابر مر ولم نشعر فيه بمضي الزمان ولا بكرِّ الليالى والأيام. هكذا العمر يمر بنا ونحن لا نشعر, يكون بعضنا غارقاً في شهواته حتى يغزو الشيب مفرقيه نظير أجل محتوم قد يحل بساحته, قد يحل الأجل والغافل لم يستقر بعد للرحيل, فإذا حانت ساعة الميعاد, فلات حين مناص, يحمل الغافل على الأعواد ويدس بين الإلحاد والذنب كثير والعمل قليل وحينئذ لا ينفعه أي عض على أصبع الندم ولا أن يهتف وينادي يا ليتنى أرد فأعمل غير الذى كنت أعمل, فالعمر فرصة لا تمنح للإنسان إلا مرة واحدة, فإذا ما ذهبت هذه الفرصة وولت فهيهات أن تعود.
فاغتنم أيها المؤمن هذه الفرصة قبل أن تموت, فإن أبواب الخير مفتحه أمامك في رمضان وغير رمضان, أبواب الخير والطاعات والعباده مفتحه أمامك في رمضان وفي غير رمضان.
فالصيام مثلاً ليس قاصرا على شهر رمضان, فقد سن لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام ست أيام من شوال فقال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله))[1] وسن لنا أيضا صيام ثلاثة أيام من كل شهر: ((ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله))[2] رواه مسلم.
والأفضل أن يصوم الأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر لحديث أبى ذر الغفاري رضي الله عنه عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا أبا ذر إذا صمت ثلاثة من كل شهر فصم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر))[3] رواه أحمد والنسائي.
وسن لنا أيضا صيام يوم عرفة وأخبرنا بأنه يكفر السنة الماضية والباقية, وصيام يوم عاشوراء وأخبرنا أنه يكفر السنة الماضية, وسن لنا صيام الإثنين من كل أسبوع وقال إنه يوم ولدت فيه وفيه أنزل علي.
وعن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصيام بعد رمضان فقال: ((أفضل صيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم))[4] وفي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يتحرى صيام الإثنين والخميس.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس وأحب أن يعرض عملى وأنا صائم))[5].
وعن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قالت: ((ما أكمل رسول الله شهراً قط إلا شهر رمضان وما رأيته أكثرصياماً منه في شعبان))[6] فالحمد الله رب العالمين ذلك الصيام, وهو من أعظم العبادات, أبوابه مفتحه مشروعة في كل الشهور طوال السنة, فاغتنم الفرصه أيها المؤمن, فإن من صفات المؤمنين والمؤمنات أنهم صوامون قوامون قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون [الذاريات:17]. فصلتهم بربهم عز وجل الذى يحبهم ويحبونه, صلتهم لا تنقطع أبدا, فهم دائما وفي كل حين يذكرونه سبحانه وتعالى ويناجونه أما ذلك الذي لايعرف ربه إلا في رمضان, فإذا ما خرج من رمضان, أعرض عن ربه ونسي ذكره, ذلك في حبه لربه شك وارتياب, هذا ليس من شأن المحب أنه لا يذكر حبيبه إلا شهرا واحدا في السنة.
فاتقوا الله أيها المؤمنون واعمروا أيامكم وشهوركم عمركم كله بذكر الله عز وجل ومناجاته وعبادته.
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب رسولك وحب من يحب رسولك وحب عمل يقربنا إليك.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك ونعوذ بك من سخطك والنار.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسلم: كتاب الصيام (1164).
[2] مسلم: كتاب الصيام (1162).
[3] الترمذي: كتاب الصيام (761).
[4] مسلم: كتاب الصيام (1163).
[5] النسائي: في الصيام (2358).
[6] أخرجه النسائي بنحوه في الصيام (2354).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد فإن من بركات شهر رمضان قيام الليل ولكنه أيضا ليس خاصا برمضان, فربنا عز وجل كما أخبرنا النبي ينزل في كل ليلة من ليالى السنة إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل الآخر فيقول: ((هل من تائب فأتوب عليه, هل من مستغفر فأغفر له, هل من سائل فأعطيه سؤله))[1] ولذلك سن لنا النبي القيام والصلاة في هذا الوقت الجليل المبارك.
وصلاة الليل مثنى مثنى أي ركعتين ركعتين, يصلي المؤمن ما تيسر له, وبما تيسر له من القرآن حتى إذا خشي أن يدركه الصبح صلى واحدة توتر له صلاته.
لقد حثنا ربنا على التقرب إليه بهذه النافلة وبمثلها من النوافل صيام أو صلاة أو صدقة أو غير ذلك. فقال تعالى في الحديث القدسي: ((ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)) أداء الفرائض أولا ثم قال: ((ومازال يتقرب إلي عبدي بالنوافل حتى أحبه)) لازال المؤمن يتزلف إلى ربه بما تيسر له من نوافل من صيام وصلاة وصدقة وقراءة للقرآن وغير ذلك حتى يحوز على تلك الدرجة العظيمة أن يحبه الله عز وجل وهذه الدرجة معناها وميزتها النور, إن من أحبه الله يمتلأ نورا كما امتلأ قلبه بنور الإيمان, فإن النور يفيض على جوارحه كلها: (( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى عليها, ولئن سألنى لأعطينه, ولئن استعاذنى لأعيذنه))[2].
وحثنا سيدنا رسول الله على صلاة الليل على وجه الخصوص فقال: ((أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام))[3] ولكن من لم يقدر على صلاة الليل وقيامه فعليه أن يحافظ على هذه السنن الرواتب التابعة للفرائض وهي اثنتا عشرة ركعة, قبل الظهر أربع وبعده ركعتان, وبعد المغرب ركعتان, وبعد العشاء ركعتان, وقبل صلاة الفجر ركعتان, قال الرسول : ((ما من مسلم يصلي لله تعالى كل يوم اثنتا عشرة ركعة تطوعا غير الفريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة))[4].
واعلموا أيها المؤمنون أن أداء النوافل, أداؤها في البيوت أفضل من المسجد وذلك لأنه بالصلاة وقراءة القرآن تعمر البيوت وتزدهر وتفر منها الشياطين وأما بدون ذلك فإن البيوت تظلم وتصبح قبورا وتمتلئ بالشياطين.
قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبورا, صلوا في بيوتكم))[5]، وقال: ((صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة))[6].
فاتقوا الله أيها المؤمنون واغتنموا العمر, اعمروا أيامكم وعمركم كله بطاعة الله.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))[7] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.