لن تكفى هذه السطور لوضع إجابات واضحة ومحددة على تساؤل كبير من هذا النوع، فالأمر يحتاج من الجميع التحلى بالأسلوب العلمى عند تأمل هذه الظاهرة.
وربما كان طرح المزيد من التساؤلات الأكثر فائدة، فعلى سبيل المثال لماذا تحمس المصريون فى الاستحقاق الأول وخرجوا للاستفتاء على الدستور ٢٠١٤؟، ولماذا تكرر نفس المشهد فى الانتخابات الرئاسية ـ الاستحقاق الثاني؟ واليوم لماذا عزفوا عن المشاركة بنفس الفاعلية ـ الاستحقاق الثالث؟!.
ما جرى فى اليوم الأول من انتخابات المرحلة الأولى لمجلس النواب المصرى، مؤشر لما ستنتهى عليه نتائج المشاركة فى اليوم الثانى، وإن كانت هذه السطور قد كتبت قبل إعلانها؛ ولا أتصور أن الأمر بأى حال سيصل لنفس زخم الاستحقاقين السابقين.
علينا أن ندرك أن جميع الأطراف خاسرة، لأن الامتناع عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع، بمثابة تصويت سلبى ضد الجميع.
فى الاستحقاقين الأول والثانى، شارك المصريون لإدراكهم أنهم فى مواجهة حقيقية مع مؤامرة إخوانية تستهدف النيل من هويتهم واستقرار دولتهم؛ وكان الخيار واضحًا بين فسطاط الخيانة، وفسطاط الوطنية والحفاظ على الهوية.
فى هذه المرة حل موعد الاستحقاق الثالث بعد أن تعرض المصريون لحملات تشكيك متتالية شنتها جميع أطراف العملية السياسية؛ وليس أحد منها براء.
فمنذ أعلن عن استعداد الانتخابات البرلمانية فى المرة الأولى، دخلت الأحزاب والنخبة السياسية فى صراعات طاحنة حتى أنها لم تستقر على وضع الملامح النهائية لقوائمها إلا قبيل موعد الانتخابات الجارية؛ وخفت فى تلك الصراعات نبرة المصلحة الوطنية فيما علا صوت المصالح الشخصية والحزبية، مما أعطى انطباعًا لدى الناخبين أننا عدنا لنقطة الصفر عند انتخابات ٢٠١٠.
وشعر الناخبون أن معظم المرشحين على القوائم والمقاعد الفردية، إنما يريدون للفوز بمقعد البرلمان لتحقيق مصالحهم الشخصية، وكرس هذا الشعور احتضان القوائم لمعظم الوجوه القديمة التى عرفها طوال فترة حكم مبارك. وفوجئ المصريون بأن معظم من حمل مشاعل التغيير ورايات الثورة فى أحداث ٢٥ يناير، هم أنفسهم من يسعون إلى رموز النظام السياسى القديم لضمهم إلى قوائمهم أو أحزابهم، وهو ما كان سببًا فى طعن مصداقيتهم فى م***، ولا أقصر هنا الحديث عن عناصر الحزب الوطنى فقط، وإنما كل من انتمى إلى النظام السياسى الأسبق حتى من دعاة المعارضة الذين سلموا البلاد لحكم المرشد، تحت دعوى التغيير الجذرى ورفضوا دعم الفريق شفيق. هذه الأجواء المسمومة فتحت منافذ لادعاءات الجماعة الإرهابية وفلولها من عناصر الطابور الخامس التى تزعم عودة نظام مبارك، وزاد من مفعول هذه الدعاية الكاذبة أداء معظم أعضاء الحكومة من السادة الوزراء الذين لم يدركوا بعد حقيقة التغيير الذى جرى فى النظام السياسى المصرى بعد اندلاع ثورة ٣٠ يونيو.
ينبغى أن تجرى مراجعة شاملة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة، لاسيما ما يتعلق منها بعملية ضبط الأسعار. ومع ذلك تبقى الثقة فى الرئيس عبد الفتاح السيسى الشيء المتماسك الوحيد فى النظام السياسى المصرى حتى الآن، وربما كانت أحد أسباب العزوف عن المشاركة اقتناعًا من الناخبين أن الرئيس ومن خلفه الجيش سيتدخل دائمًا فى الوقت المناسب، إلا أن هذه الحالة تعكس أيضًا تأثير الدعاية السلبية بشأن عودة النظام القديم، من حيث إن الرئيس لا يزال هو المتحكم فى كل أطراف اللعبة، وإن كان المصريون يدركون الفارق بين الرئيس الأسبق مبارك والرئيس عبد الفتاح السيسى الذى يثقون فى صدق وحسن نواياه وتدبيره. غير أن استمرار هذه الأوضاع المشوهة فى الأحزاب السياسية والحكومة معًا سينعكس حتمًا على هذه الثقة المطلقة.
نحن بصدد فشل أكيد لأداء التيار المدنى بكل أحزابه ونخبه ولبعض سياسات الحكومة، غير أن هذه الأسباب قد لا تكون الوحيدة، وربما ليس كلها صحيحًا، وهنا تقع المسئولية على عاتق مركز المعلومات واتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، وظنى أن إحدي مهامه العاجلة إجراء استطلاع للرأى العام يرصد عبر استمارة استبيان مصممة جيدًا وعينة عشوائية ممثلة لجمهور الناخبين للوقوف على الأسباب الحقيقية لعزوفهم عن المشاركة فى انتخابات البرلمان.