ا بعد:
فاتقوا الله حق تقواه، فمن اتقاه خَشِيَهُ وسلك طريق رضاه.
عباد الله:
إن الخوف من الله من المقامات العليّة وهو من لوازم الإيمان، قال الله تعالى: ﴿ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ وقال: ﴿ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ﴾، وقال: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾، وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي )) وروى أحمد: ((فَوَاللَّهِ إِنِّي أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَحْفَظُكُمْ لِحُدُودِهِ)).
وكلما كان العبدُ أقربَ إلى ربه كان أشدَّ خشية، فقد وصف الله الملائكة بقوله: ﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ﴾، وقال عن الأنبياء: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ﴾.
فالخوف من الله من سماتِ المؤمنين وصفاتِ المتقين، وسبيلٌ لمن ابتغى النجاة في الآخرة.
وإذا سكن الخوفُ من الله في القلبِ أحرق مواضعَ الشهوات فيه، وطرد حُبَّ الدنيا عنه، وكلُّ قلبٍ ليس فيه خوفٌ من الله فهو قلب خَرِب.
أيها المسلمون:
من فقد الخوفَ من الله خاض في المعاصي، وتملكته الشهوات، ووقع في الشبهات، وأكل الحرام، وارتكب الكبائر، وقلَّ أمْرُهُ بالمعروف ونهْيُهُ عن المنكر.
إذا فارقَ الخوفُ القلوبَ أجدبت، ثم اسودت وأظلمت وقست وتحجرت، فلا تتأثرُ بموعظة، ولا تنتفع بتذكرة؛ فما الخوف من الله إلا مفتاحٌ يفتح الله به قلوباً غُلفا، وأعيُناً عُميا، وآذَاناً صُمَّا.
عباد الله:
لقد أمر الله جل وعلا بالخوف منه، وأثبت الإيمان للخائفين فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾.
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ قَالَتْ عَائِشَةُ أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟، قَالَ: (( لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)).
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ، قَطْرَةٌ مِنْ دُمُوعٍ فِي خَشْيَةِ اللَّهِ، وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهَرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْأَثَرَانِ فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ)).
أحبتي في الله:
لقد ذكر الله جل وعلا في كتابه الكريم شدةَ عذابِه وقوَّةَ بطشه وسرعةَ أخذِهِ وأليمَ عقابِه، وما أعد من العذاب والنكال لمن عصاه واتبع هواه، وذكر النار وأحوالها وأهوالها، وما فيها من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال، ليعرف العبادُ ربَّهم ويعرفوا قُدرتَه، فيخشَوْهُ ويخافوه ويتقوه.
إن كتاب الله مليء بالآيات والمواعظ، ولكنْ لا يتعظُ بها إلا الخائفون، ﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾.
ويرسل الله الآياتِ مع الأنبياء عليهم السلام تخويفا للعباد، قال تعالى: ﴿ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾. وكذلك الآياتُ الكونية كالبرق والرعد وغيرها، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ﴾، وكذلك الخسوف والكسوف قال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لاَ يَكْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّهُمَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ)).
معاشر المؤمنين:
إن الخوف إذا سكنِ القلبَ أثَّرَ في الجوارح، فيُثمرُ عملاً صالحا، وقولاً حسناً، وسلوكاً قويما، وفعلاً كريما، فتخشعُ الجوارحُ، وينكسرُ الفؤادُ، ويرِقُّ القلبُ، وتزكُو النفسُ، وتجودُ العين.
ومن ثمراته العظيمة في الدنيا: أنه من أسبابِ التمكينِ في الأرض، وزيادةِ الإيمان والطُّمأنينة، قال عز وجل: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾.
كما أنه يبعث على العمل الصالح الخالص، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾، وقال تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾.
وأمّا في الآخرة: فإن الخائف من الله يُؤمِّنُه الله يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: ((وَعِزَّتِي لاَ أَجمَعُ على عَبْدِي خَوفَين وأَمْنَيْن إذَا خَافَنِي في الدُّنيَا أَمَّنْتُهُ يَومَ القِيَامَة، وإذَا أَمِنَنِي في الدُّنيَا أَخَفْتُهُ يومَ القِيَامَة)).
ومن ثمرات الخوف أن الخائف يستظل بظل عرش الرحمن يوم القيامة، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((... وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ...))، ((...وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ))، والعين التي بكت من خشية الله إحدى العينين اللتان لا تمسهما النار.
كما أن الخوفَ من الله من أسبابِ غُفرانِ الذنوب، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ اذْرُونِي فِي الرِّيحِ فِي الْبَحْرِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَىَّ رَبِّي لَيُعَذِّبُنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ بِهِ أَحَدًا. قَالَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ فَقَالَ لِلأَرْضِ أَدِّي مَا أَخَذْتِ. فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ، فَقَالَ: خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ - أَوْ قَالَ - مَخَافَتُكَ. فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ)).
كما أنَّ الخوفَ من الله طريقٌ من طُرُقِ الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ)).
والخوفُ من الله سببٌ للنجاةِ من كلِّ سوء، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث منجياتٌ: خشيةُ الله تعالى في السر والعلانية، والعدلُ في الرضا والغضب، والقصدُ في الفقر والغني)).
اللهم إنا نسألك خشيتَك في الغيب والشهادة والعدلَ في الرضا والغضب والقصدَ في الغنى والفقر.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حق تقواه، واخشوه وأطيعوه، ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾.
عباد الله:
لقد كانت خشيةُ الله عز وجل تلازم الصالحين والأتقياءَ من عباده، لذلك كانوا يجتهدون في العمل ويُخلصون ويسألون الله القبول، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تفطرت قدماه خشيةً من الله وإجلالاً وتعظيماً له.
وكان أبو بكر رضي الله عنه كثيرَ البكاء، وكان يُمسك لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد) وإذا قام إلى الصلاة كأنه عودٌ من خشية الله.
أما عمرُ رضي الله عنه فكان يمر بالآية من ورده بالليل فتخيفُه، فيبقَى في البيت أياماً يُعادُ يحسبونه مريضا، وكان في وجهه رضي الله عنه خطان أسودان من البكاء.
وكان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على القبر يبكي حتى يَبُلَّ لحيته، ويقول: (لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيَّتُهما يُؤمر بي، لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيَّتُهما أصيرُ).
وأما علي رضي الله عنه فكان يستوحشُ من الدنيا وزهرتِها، ويستأنسُ بالليلِ وظلمتِه، وكان غزيرُ الدمعة، طويلُ الفكرة، ويبكي بكاء الحزين، وكان يقول: آهٍ آه من قِلَّةِ الزاد وبُعْدِ السَّفر ووحْشَةِ الطريق.
أما ابن عباس رضي الله عنه فكان أسفلُ عينيه مثلُ الشّراكِ البالي من البكاء.
وأبو عبيدة رضي الله عنه يقول: ودِدْتُ أنِّي كنت كبشاً فيذبحُني أهلي فيأكلون لحمي ويشربون مرقي.
ولما حضرت معاذ بن جبل رضي الله عنه الوفاة جعل يبكي، فقيل له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت وأنت؟
فقال: ما أبكي جزعاً من الموتِ أَنْ حلَّ بي، ولا دنياً تركتُها بعدي، ولكنْ هُمَا القبضتان، قبضةٌ في النار وقبضةٌ في الجنة فلا أدري في أيِّ القبضتينِ أنا.
وهكذا كان حالُ صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما هم عليه من التقوى، وإخلاصِ العمل، والجهادِ بأموالهم وأنفسهم، وفيهم المبشرون بالجنة، كانوا إذا ذُكِرَ الله هملت أعيُنُهم حتى تبتلَّ جيوبهم، ومَادُوا كما يَميدُ الشجرُ يومَ الريحِ العاصف؛ خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب.
عباد الله:
لقد أخبر الحق سبحانه وتعالى عن حال الخائفين وقد أصبحوا في الجنة وهم يذكرون حالهم في الدنيا: ﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾.
فالخائفون هم أهل القلوب الوجلة، ﴿ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾، وهم أهل الخشية، ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، تَحَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ الْبَالِيَةِ وَرَقُهَا)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ)).
عباد الله: أتعرفون لماذا أولئك خافوا من الله؟
لأنهم عرفوا الله حق المعرفة، قال تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
ولأنهم أحبوا الله جل وعلا فمَلَكَ قلوبَهم، يقول ابن القيم رحمه الله: (من عرف ربه أحبه)، كيف لا؟! وهو المُنعم وإليه المشتكى وبيده مقاليد السماوات والأرض. فأي حُبٍ ينبغي أن يكون؟!.
أمَّا من صرف حُبَّهُ للأموال والنساء والمناصب، فقد وقع في الفتن، وملكَتْ شغافَ قلبه، وأشغلته عن حبِّ الله ورجائِهِ والخوفِ منه، ففي الحديث( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ)). إنه لا يخاف من الله إلا من أيقن بوجوده، وآمن بالجنةِ والنارِ والحساب، عن الحارث بن مالك رضي الله عنه أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له(كيف أصبحت يا حارثة؟)) قال: أصبحتُ مؤمناً حقاً، قال: ((انظر ما تقولُ إن لكلِّ حقٍّ حقيقة، فما حقيقةُ إيمانِك؟)) قال: عزَفَتْ نفسي عن الدنيا وكأنيِّ أنظرُ إلى عرشِ ربي بارزاً وكأنيِّ أنظرُ إلى أهلِ الجنةِ يتزاورونَ فيها وكأنيِّ أنظرُ إلى أهلِ النارِ يتضَاغَوْنَ فيها، قال: ((يا حارثةُ عرَفَتَ فالزَمْ)) قالها ثلاثا. فيا من تخافُ الله عز وجل: تذكَّرْ قبل المعصية: أنه سبحانه وتعالى يراكَ ويعلمُ ما تُخفي وما تُعلن، وأن الملائكةَ تُحصي وتكتب، ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾.
وتذكَّر لحظةَ الموتِ ورُوحُكَ تُجْذَبُ جذباً شديدا، وأنت تتمنى أن تتوب إلى الله وتُصلي ولو ركعة، أو تقرأ آية.
تذكر القبر وظُلمَتَه وعذابَه، فهو إمَّا روضةٌ من رياضِ الجنةِ أو حفرةٌ من حُفَرِ النار.
تذكر يوم يُحشرُ الناسُ حفاةً عراةً غُرلا.
تذكر يوم تتطايرُ الصحف فآخِذٌ كتابَهُ بيمينه وآخِذٌ كتابه بشماله.
تذكر يوم تدنُو الشمسُ من الرؤوسِ قَدْرَ مِيلٍ ويعرقُ الناسُ على قَدْرِ أعمالهم فمنهم من يصل العرقُ إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى رُكبتيه، ومنهم من يصل إلى حِقويه، ومنهم من يُلجِمُه العرقُ إلجاماً والعياذ بالله.
تذكر يومَ تشهدُ عليك أعضاؤُك، تذكر الصراطَ وزلَّتَه، تذكر وقُوفَك بين يدي الله عز وجل وليس بينك وبينه حجاب أو ترجمان، تذكر النارَ وقعرَهَا وشدةَ حرِّها وعذابَ أهلِها.
تذكر أن الذنوبَ تؤدِي إلى قِلِّةِ التوفيقِ، وحرمانِ العلمِ والرزقِ، وضيقِ الصدرِ وقِصَرِ العُمُر، وموتِ الفجأةِ، وذهابِ الحياء والغَيْرَة، وأعظمُ عقوباتِها أنها تُورثُ القطيعةَ بين العبدِ وربِّه، وإذا وقعتِ القطيعةُ انقطعت عنه أسبابُ الخير واتصلت به أسبابُ الشر.
أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الإيمان الصادق، والعمل الصالح، وأن يُبلِّغَنا الدرجاتِ العُلاَ من الجنة.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
عباد الله:
إن من أفضَلِ أعمَالِكُم وأزكَاهَا، صلاتُكُم على نبيِّ الرحمةِ ورسولِ الهدى، طاعةً لله جلَّ وعلا، حيث قال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾.
ر