الحمد لله ذي العظمة والجلال العزيز الغفار، أحمده سبحانه من إله عزيز ذي انتقام، وأشكره على إمهاله وحِلْمه وسَعة عفوه، ونعمٍ لا تُحصى ولا تُعَد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أسمائه وصفاته، وفي عبادته وفي ربوبيته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، الداعي إلى رِضوان الله والطمع في مغفرته، والتخويف من غضبه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه المشمِّرين إلى طلب عفو الله، والخائفين من الوقوع فيما يُسخِط الله.
أما بعد:
فأيها الناس، اتقوا الله، واعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أُعطي جوامع الكَلِم من ربه - سبحانه وتعالى - لعِلْمه بخلود الشريعة وبقائها وشمولها، وهذا الأمر لا يَحصُل إلا بقواعد وأُسس.
فمِن جوامع الكَلِم التي حوتْ لنا كلَّ خير، ونفت عنا كلَّ شر: ما نطق بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي لا يَنطِق عن الهوى في مقالته للرجل الذي طلَب الوصية من الرسول صلى الله عليه وسلم عدة مرات، وفي كل مرة يقول الرسول المعلِّم صلى الله عليه وسلم: ((لا تغضب))، وفي بعض الألفاظ أن الرجل قال: قلت: يا رسول الله، دُلَّني على عملٍ يدخلني الجنة ويُباعِدني من النار، ولا تُكثِر عليَّ، قال: ((لا تغضب))، ومعلوم أن الوصية: طلب الشيء مع تأكيده، فالرسول صلى الله عليه وسلم أكثر عليه بعدم الغضب، والغضب لفظ وارد في الكتاب والسُّنة، يكون من الله بمعنى: إنكاره على مَن عصاه، وسخط عليه وأعرض عنه؛ مُعاقَبة له، ويكون من الناس على ضربين: محمود ومذموم؛ فالمحمود: ما كان في جانب الدين والحق، أما المذموم، فما كان في خلافه، وما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الرجلَ من قبيل المذموم؛ ولهذا قال الرجل: ففكَّرتُ حينما قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشرَّ كله.
أيها المسلمون، إن وصية النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل ليست له وحده، بل هي لكل مَن يأتي بعده إلى يوم القيامة، فجدير بكل مسلم التخلُّق بخُلُق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن يَعقِل ما يقول ويتفهَّم معناه، ومما لا شك فيه أن صفة الغضب مذمومة؛ لما يترتَّب على وجودها من جلْب الشر وعدم إدراك الخير؛ لأن الغضب هو: غليان دم القلب طلبًا لدفع المؤذي عنه؛ خشية وقوعه، أو طلبًا للانتقام ممن حصل منه الأذى بعد وقوعه، وينشأ عن ذلك كثير من الأفعال المُحرَّمة؛ كالقتل والضرب وأنواع الظلم والعدوان، وكثير من الأقوال المُحرَّمة؛ كالقذف، والسب، والفحش، وربما ارتقى إلى درجة الكُفْر كما وقع لجَبَلة بن الأيهم، وكالأيمان التي لا يجوز التزامها شرعًا، وطلاق الزوجة الذي يَعقُبه الندم.
وقوله صلى الله عليه وسلم لمن استوصاه: ((لا تغضب)) يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون مراده الأمر بالأسباب التي تُوجِب حُسْن الخلق؛ من الكرم والسخاء، والحِلْم والحياء، والتواضع والاحتمال، وكف الأذى، والصفح والعفو، وكَظْم الغيط، والطلاقة والبِشْر، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة، فإن النفس إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادة، أوجب لها ذلك دفْعَ الغضب عند حصول أسبابه.
والثاني: أن يكون المراد: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك، بل جاهِد نفسك على ترْك تنفيذه والعملِ بما يأمر به؛ فإن الغضب إذا ملَك شيئًا من بني آدم، كان الآمر والناهي له؛ ولهذا المعنى قال الله - عز وجل -: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ﴾ [الأعراف: 154]، فإذا لم يَمتثِل الإنسان ما يأمره به غضبُه، وجاهد نفسه على ذلك، اندفع عنه شرُّ الغضب؛ ولهذا امتدح الله تعالى مَن هذه صفتُه: ﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ [الشورى: 37]، ويقول تعالى: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]، وكما حذَّرنا النبي من صِفة الغضب، وبيَّن أنها داء مُضِر ينبغي التباعد عن الوقوع فيه، أوضح لنا عليه الصلاة والسلام كلَّ الإيضاح علاجَ هذا الداء إذا ما وقع، فهناك أسباب وعلاجات للغضب أمَر بها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
التعوذ بالله من الشيطان الرجيم حين وجود الغضب، فهو علاج ما أَحسَنه! يدل على الاعتصام بالله والالتجاء إليه من هذا الشيطان الرجيم، الذي يريد أن يُوقِع الإنسان في الردى والهلاك؛ ففي الحديث المتَّفَق عليه عن سليمانَ بنِ صُرَدَ رضي الله عنه قال: استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن جلوس عنده، وأحدهما يَسُب صاحبَه مُغضَبًا قد احمرَّ وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم كلمة لو قالها، لذهب عنه ما يَجِد؛ لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم))، فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني لست بمجنون.
ومن الأسباب المهدِّئة للغضب: جلوسه إن كان قائمًا، فإن أجدى ذلك، وإلا فليضطجع؛ كما في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا غضِب أحدُكم وهو قائم، فليَجلِس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)).
قال ابن رجب رضي الله عنه في "جامع العلوم والحِكم": "وقد قيل: إن المعنى في هذا أن القائم متهيئ للانتقام، والجالس دونه في ذلك، والمضطجع أبعد عنه، فأمَره بالتباعد عنه حالة الانتقام".
ومن الأسباب التي تُتَّخذ لدفع الغضب ومضارِّه: السكوتُ، قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا غضِب أحدُكم، فليَسكُت))، قالها ثلاثًا، فهذا أيضًا دواء عظيم للغضب؛ لأن الغضبان يَصدُر منه في حالة غضبه من القول ما يَندَم عليه في حال زوال غضبه - كثير من السِّباب وغيره مما يَعظُم ضررُه، فإذا سكت زال عنه هذا الشر كله.
ومن العلاجات النبوية لدفع حرارة الغضب: أن يتوضأ أو يَغتسِل؛ لأن الغضب جمرة في قلب كل إنسان؛ ولهذا تحمرُّ عيناه، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلِق من النار، وإنما تُطفأ النار بالماء؛ فإذا غضِب أحدُكم فليتوضَّأ))، وعن معاوية رضي الله عنه أنه قال: سمعتُ رسول الله يقول: ((إن الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، والماء يُطفئ النارَ؛ فإذا غضِب أحدكم فليَغتسِل)).
نسأل الله العفو والعافية، والتوفيق لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ [الشورى: 37].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر والحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.