الخطبة الأولى
عباد الله، إن معرفة الله،جل وعلا،هي أعظم الغايات حتى يعبد حق العبادة؛ هي الأساس الذي قامت عليه دعوات المرسلين،لقد عرفنا الله،جل وعلا بنفسه ، وصفاته وأفعاله ، فلا أعظم من معرفة الله رب العزة والجلالة بمعرفة أسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، وحقوقه . فمن أسمائه ، جل وعلا ، أنه الودود . وصفة الودود صفة عظيمة ، من صفاته العظام ، واسم من أسمائه الحسان ." الود من الله ، عز وجل ، لأوليائه وأحبائه المقربين .. فماذا تكون الحياة التي ضحوا بها وهي ذاهبة ؛ لينالوا منه الود ؟ وماذا يكون العذاب الذي احتملوه في الدنيا - وهو موقوت -إلى جانب نيل هذا الود "؟
كم تنشرح الصدور ، وتسر النفوس ، كلما تدبرت في صفة الودود ! لقد قال الله في محكم التنزيل :" وهو الغفور الودود "، إنها - وربي - صفة عظيمة من صفات الله جل وعلا، ترتفع المعنويات عند معرفتها،فكيف بنيلها ؟ يقول ابن القيم ،رحمه الله،في نونيته :
وهو الودود يحبهم ويحبــــــــــه أحبابــــــه والفضل للمنــــــــان
وهو الذي جعل المحبة في قلــــــ وبهم وجازاهم بحب ثـــــان
هذا هو الإحسان حقا، لا معا وضة، ولا لتوقع الشكـران
لقد عرف شعيب،عليه السلام،قومه بربه،وبين لهم بأنه الودود؛لعلهم إلى الحق يرجعون،وإلى ربهم ينيبون،فقال الله حاكيا قوله
واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود) [هود 90]. فالله ودود لعباده المتقين يحبهم،ويقربهم،ويرضى عنهم،قال تعالى: (يحبهم ويحبونه) [المائدة 54].
إنه يود عباده الصالحين ويحبهم،ويوده عباده ويحبونه؛فالله،جل وعلا،ودود يجعل لعباده الود (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) [ مريم 96]. فالله ، جل وعلا ، مودود : محبوب ، يحبه أولياؤه،ويشتاقون للقائه . إن في هذا الاسم الكريم العظيم ، حثا للمذنبين على أن يتوبوا ، وللمفرطين أن يعودوا ، قال الإمام ابن جرير ، رحمه الله : فإن الله ذو محبة لمن أناب وتاب إليه ، يوده ويحبه "، فيوددهم إلى خلقه .وقال القرطبي، رحمه الله : فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الله سبحانه هو ( الودود ) على الإطلاق ، المحب لخلقه , والمثني عليهم، والمحسن إليهم , ثم يجب عليه أن يتودد إلى ربه بامتثال أمره ونهيه , كما تودد إليه بإدرار نعمه وفضله , ويحبه كما أحبه ، ومن حب العبد لله رضاه بما قضاه وقدره ، وحب القرآن والقيام به ، وحب الرسول ، صلى الله عليه وسلم،وحب سنته والقيام بها والدعاء إليها . إن ربنا هو الودود لكثرة إحسانه ، وهو المستحق أن يود فيعبد ويحمد.
قال الإمام السعدي
فهو المتودد إلى خلقه بنعوته الجميلة ، وآلائه الواسعة ، وألطافه ، ونعمه الخفية والجلية ، فهو الودود يحب أولياءه،وأصفياءه ويحبونه ، فهو الذي أحبهم ، وجعل في قلوبهم المحبة ؛ فلما أحبوه؛ أحبهم حبا آخر جزاء لهم على حبهم . فالفضل كله راجع إليه ، فهو الذي وضع كل سبب يتوددهم به ، ويجذب قلوبهم إلى وده ، تودد إليهم بذكر ما له من النعوت الواسعة ، العظيمة ، الجميلة الجاذبة للقلوب السليمة ، والأفئدة المستقيمة ، فإن القلوب والأرواح الصحيحة مجبولة على محبة الكمال ، والله تعالى له الكمال التام المطلق . تودد لهم بآلائه ونعمه العظيمة التي بها أوجدهم ، وبها أبقاهم وأحياهم ، وبها أصلحهم ، وبها أتم لهم الأمور ، وبها كمل لهم الضروريات والحاجيات والكماليات ، وبها هداهم للإيمان والإسلام ، وبها هداهم لحقائق الإحسان ، وبها يسر لهم الأمور ، وبها فرج عنهم الكربات،وأزال المشقات ، وبها شرع لهم الشرائع ، ويسرها ، ونفى عنهم الحرج ، وبها بين لهم الصراط المستقيم ، وأعماله ، وأقواله ، وبها يسر لهم سلوكه وأعانهم على ذلك شرعا وقدرا ، وبها دفع عنهم المكاره والمضار ، كما جلب لهم المنافع والمسار ، وبها لطف بهم ألطافا ، شاهدوا بعضها ، وما خفي عليهم منها أعظم .
فجميع ما فيه الخليقة من محبوبات القلوب ، والأرواح ، والأبدان : الداخلية والخارجية ، الظاهرة والباطنة ؛ فإنها من كرمه وجوده ، يتودد بها إليهم ، فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن إليها ، فأي إحسان أعظم من هذا الإحسان،الذي يتعذر إحصاء أجناسه،فضلا عن أنواعه ، وأفراده!
وكل نعمة منه تمتلئ بها قلوب العباد من مودته ، وحمده ، وشكره ، والثناء عليه . ومن تودده،عز وجل، أن العبد يشرد عنه ؛ فيتجرأ على المحرمات ، ويقصر في الواجبات ؛ والله يستره ، ويحلم عنه ، ويمده بالنعم ، ولا يقطع عنه منها شيئا ، ثم يقيض له من : الأسباب ، والتذكيرات ، والمواعظ ، والإرشادات ، ما يجلبه إليه ؛ فيتوب إليه وينيب ؛ فيغفر له تلك الجرائم ، ويمحو عنه ما أسلفه من الذنوب العظائم ، ويعيد عليه وده وحبه . ولعل هذا - والله أعلم - سر اقتران الودود بالغفور في قوله تعالى: ( وهو الغفور الودود) [البروج 14].
ومن كمال مودته للتائبين: أنه يفرح بتوبتهم أعظم فرح،وأنه أرحم بهم من والديهم،وأولادهم،والناس أجمعين، وأن من أحبه من أوليائه كان معه،وسدده في حركاته وسكناته، وجعله مجاب الدعوة وجيها عنده. وآثار حبه على أوليائه وأصفيائه لا تخطر ببال ، ولا تحصيها الأقلام . وأما مودة أوليائه له فهي روحهم وروحهم ، وحياتهم وسرورهم ، وبها فلاحهم وسعادتهم ، بها قاموا بعبوديته ، وبها حمدوه وشكروه ، وبها لهجت ألسنتهم بذكره ، وسعت جوارحهم لخدمة دينه ، وبها قاموا بما عليهم من الحقوق المتنوعة ، وبها كفوا قلوبهم عن التعلق بغيره ، وكفوا جوارحهم عن مخالفته ، وبها صارت جميع محابهم تبعا لهذه المحبة . فإنهم لما أحبوا ربهم؛أحبوا أنبياءه ، ورسله ، عليهم السلام ، وأولياءه ، وأحبوا كل عمل يقرب إليه ، وأحبوا ما أحبه من زمان ومكان ، وعمل وعامل ، وصارت أوقاتهم كلها مشغولة بالتقرب إلى محبوبهم . وكل هذه الآثار الجميلة الجليلة ، من آثار الود الذي تفضل به عليهم محبوبهم ، وتقوى هذه الأمور بحسب ما في القلب من الحب لله ، الذي هو روح الإيمان الدال،والداعي إلى التوحيد ، والتعبد . إن الله ، عز وجل ، ليس له مثيل في ذاته وأوصافه ، فمحبته في قلوب أوليائه ليس لها مثيل ولا نظير، في أسبابها وغاياتها ، ولا في قدرها وآثارها ، ولا في لذتها وسرورها ، وفي بقائها ودوامها ، ولا في سلامتها من المنكدات والمكدرات، من كل وجه . وربنا ، سبحانه ، ودود ، يحب أولياءه ، ويحب من أطاعه ، يحب المؤمنين المتقين ، ويحب الصابرين المتوكلين ، ويحب التوابين المتطهرين ، ويحب الصادقين المحسنين ، ويحب جميع الطائعين ، ولا يحب الظالمين الكافرين ، ولا يحب الخائنين المسرفين ، ولا يحب المختالين المستكبرين ، يحب أن يطاع أمره ، ويفعل العبد ما يحبه ربه ويرضاه من سديد الأقوال ، وصالح الأعمال ، وأن يتقرب إليه بامتثال أمره ، واجتناب نهيه ، وحب كلامه ، سبحانه ، وحب رسوله،صلى الله عليه وسلم ، وسنته ، والاجتهاد في متابعته ، فبذلك تنال محبة الله ومودته ، قال تعالى :{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} . إن كل هذا الكون تودد من الله إلى عباده،يتودد إلينا بالنعم وهو الغني عنا،فالكون، والمجرات والسماوات،والأرض وما فيها،والشمس،والقمر،والأمطار،والخيرات،وكل شيء سخره الله،عز وجل،لهذا الإنسان هو في الأصل ود من الله،عز وجل،لعباده.فأنت لم تكن شيئا مذكورا،خلقك تنعم من أول لحظة ، قال تعالى:: (ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين)[البلد 8-10].تودد إلينا أن خلق الرجال والنساء يستمتع كل منهم بالآخر،قال تعالى:﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ . إن الله،عز وجل،إذا أحب أحسن،ورحم،وأكرم؛فحب الله،عز وجل، للمؤمنين ثابت في القرآن الكريم،قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم (54)﴾ [سورة المائدة]،محبة الله،عز وجل،للمؤمن تعني:حفظه، وتأييده،ونصره،وإكرامه،وإنزال الرحمة على قلبه،وإنزال السكينة عليه،وإغناؤه بكل ما يحتاج ، هذا من حب الإله ، عز وجل ، لعباده . فهو يكرم عباده،ونعمه مظهر لحبه لعباده . بارك الله لي ولكم في القرآن...
===================================
الخطبة الثانية
عباد الله، تدبروا في اسم ( الودود )، وأبحروا في أعماقه ، وافهموا معانيه ، وغوصوا في أغواره ؛ فسترون الآثار العظيمة لهذا الاسم العظيم ، فإذا صحت الرؤية ، واستيقظ القلب ، وتفتحت البصيرة ، رأيت أن كل هذا الكون ما هو إلا تودد من الله إلى هذا الإنسان . نعم عباد الله، لقد تودد إلينا ربنا من أجل أن نحبه ونعبده ، ونطيعه . ولذا نجد الصالحين يتوددون ويتقربون إلى الله ، وأنت - يا عبد الله - حينما تصلي ، وتصوم ، و تحج ، وحينما تغض من بصرك وتتصدق ، وتكون أمينا ، وتنصح المسلمين ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتنفق من مالك؛كل هذه الأفعال من اعتقادات ، وعبادات ، ومعاملات ، وآداب ؛ هي في حقيقتها تودد إلى الله ، عز وجل ، هو تودد إلينا بالخيرات ، وسخر لنا هذا الكون ، وأعد لنا جنة عرضها السماوات والأرض ، ونحن نتودد إليه بالإيمان به ، وبعبادته وطاعته ، وامتثال أمره ، وبترك ما نهى عنه ،وبالتخلق بأخلاق نبيه،صلى الله عليه وسلم، وبالبذل والعطاء . ويجب أن يكون منهج المؤمن:﴿قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين(162)﴾[سورةالأنعام]،فحياتي كلها،ووقتي كله،وطاقتي،ومالي، وعلمي، وأولادي،وبيتي؛ملك لله. فأكون عبدا لله،وأنفع عباده الصالحين. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
عباد الله،إن الله،سبحانه وتعالى،يتودد عباده إليه،وهو يتودد إلى عباده، وهو يخلق المودة في قلوب عباده بعضهم لبعض. وأعقل عمل،وأحكم عمل،وأذكى عمل يفعله المؤمن - بعد أن يؤمن بالله- أن يتودد إلى الناس،حتى يسري الحق إليهم،قال تعالى: ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين(159)﴾ (سورة آل عمران) . فيجب أن تكون الرحمة بين العباد،وينصح بعضهم بعضا بالرفق واللين؛توددا إليهم. فالقول اللين من التودد إلى الناس،الذي يحببهم في ربهم،ودين نبيهم،عليه الصلاة والسلام . والحمد لله رب العالمين،وصلى الله وسلم على نبينا محمد،وعلى آله وصحبه وسلم