بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر.
وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمنا، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام:
لا زلنا في شهر ربيع الأول شهر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، النبي صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة والهدى، وللنبوة والأنبياء في عقيدة المسلم قصة.
لفقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وكرمه أعظم تكريم، حمَّله أمانة التكليف وأعطاه مقوِّمات هذا التكليف ؛ كوناً ناطقاً بوجود الله ووحدانيته وكماله، وإكرامه، وعقلاً يتفق في مبادئه، مع سنن الكون وهو أداة معرفة ومناط مسؤولية، وفطرةً سليمةً تكشفُ للإنسان خطأه وشهوة دافعةً رافعةً، وحرية اختيار مقومةٍ مثمَّنة، وقوةً محققةً للكسب كاشفة للطوية، ومنهجاً تفصيلياً يقي الزلل ويحقق الهدف.
ومع كل هذا فقد يغفل الإنسان عن مهمته، وينسى ما كُلف به وتغلبه شهواته، وتُرديه رغباته، ويسير في طريق الهاوية، وهو يحسب أنه يُحسن صنعاً، قال تعالى:
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106)﴾
[سورة الكهف]
لأن الله خلق الإنسان، هو أرحم بالإنسان من نفسه خلقه لجنة عرضها السماوات والأرض " فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " فلا بد وهو أرحم الراحمين من أن يخاطب البشر، من حين إلى حين، مذكراً بمهمتهم، مبيناً لمنهجهم، محذراً عواقب غفلتهم وإعراضهم، وبما أنه يستحيل أن يخاطب الله كل البشر لأن تحمُّل الخطاب وتلقي الوحي عن الله لا يستطيعه، ولا يستأهله إلا نخبة من صفوة البشر، قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ﴾
[سورة آل عمران 33]
من أجل هذا كان الأنبياء والمرسلون، وكان من بعدهم الأئمة والداعون والهداة والمهديون ؛ لأن النبي لا يستطيع تحقيق رسالته، إلا إذا كان من بني البشر ليبلغَهم بلسانهم، قال تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) ﴾
[سورة إبراهيم]
ولا يستطيع نبي أيضاً أن حقيقة رسالته إلا إذا جرت عليه كل خصائص البشر حتى يكون انتصاره على بشريته، قدوةً ومثلاً لك البشر وبهذا يُحقق النبي الكريم مهمة القدوة، تكميلاً لمهمة التبليغ، لذلك يُعدُّ من سنة النبي صلى الله عليه ولسلم: أقواله، وأفعاله، وإقراره وصفاته، قال تعالى:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾
[سورة القلم]
هذا الخلق العظيم منهج لأمتك..
وقال:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾
[سورة آل عمران]
حينما يأتي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بعقيدة، ومنهجٍ يُسفِّه بها ضلالات البشر، وانحرافاتهم، يظهر المعارضون المتضررون من تطبيق منهج الله، هؤلاء المعارضون الذين حدَّت رسالات السماء من انحرافهم وطغيانهم، ما يكون منهم إلا أن يكذبوا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)﴾
[سورة الرعد]
لذلك لا بد من أن يشهد الله لكل البشر، أن هذا الإنسان الذي خصه الله بالنبوة والرسالة هو رسوله، وهو صادق فيما يقول، وتكون شهادة الله للبشر بأن يؤيد رسوله بمعجزة، يعجز عن الإتيان بمثلها كل البشر وينبغي أن يكون موضوع المعجزة مما نبغ فيه القوم ليصح التحدي ولتقوم الحجة.
لقد كانت معجزات الأنبياء حسية، محدودة في مكان، وزمان، تألقت مرة واحدة كعود الثقاب، ثم أصبحت خبراً يصدقه مصدق ويكذبه مكذب أما معجزة نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو خاتم النبيين فهي معجزة مستمرة لكل البشر ؛ لأنها بين يدي البشر في كل عصر وفي كل مصر إلى يوم القيامة، إنها معجزة عقلية بيانية، إعجاز علمي، وإعجاز تشريعي وإعجاز إخباري، وكلما تقدم البحث العلمي كشف عن جانب من إعجاز القرآن، قال تعالى:
﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)﴾
[سورة فصلت]
أي القرآن..
بالعقل يحكم الإنسان بأنه لا بد لهذا الكون من خالق موجد ورب ممد ومسير حكيم واحد في ذاته، واحد في أسمائه، وأفعاله.
وبالعقل يحكم الإنسان أن هذا القرآن هو كلام الله جل وعلا من خلال إعجازه، وبالعقل يحكم الإنسان بأن الذي جاء بالقرآن المعجز هو رسوله وبعدئذ يأتي دور القرآن ليخبر الإنسان عمَّا لا يستطيع العقل أن يدركه بذاته، من هذه الموضوعات التي يعجز العقل عن إدراكها بذاته، والتي أخبر بها القرآن ؛ قصة خلق السماوات والأرض، حقيقة الحياة الدنيا حقيقة الدارِ الآخرة، خلق الإنسان، أين كان وإلى أين المصير، وما سر وجوده على هذه الأرض، وما المهمة التي كُلف بها وما المنهج الذي ينبغي أني سير عليه، ليحقق ذاته، وليدرك السعادة، في الدنيا والآخرة ؟.
الدين في اختصار شديد: عقل ونقل.. عقلٌ لمعرفة الله، وللتحقق من صحة النقل عنه ولفهم هذا النقل، ونقل يُبين للعقل ما خفي عنه، وما عجز عن إدراكه، وما يضمن سلامته وسعادته، من خلال التشريع الإلهي.
باختصار شديد هذه قصة النبوة والأنبياء، ونحن في شهر ربيع الأول شهر مولد النبي عليه الصلاة والسلام، فمن أي الجوانب يكون الحديث عن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟..
إن أبرز هذه الجوانب هي شماله الشريفة، لأننا مكلفون أن نقتدي به قال تعالى:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) ﴾
[سورة الأحزاب]
ماذا يعني الحديث عن شمائل الني صلى الله عليه وسلم ؟.. ولا سيما وقد جعله الله أسوةً صالحةً لنا.. يعني أن هناك تلازماً ضرورياً بين التدين الصحيح والخلق القويم، فالنبي صلى الله عليه وسلم حدد الغاية الأولى من بعثته، والمنهج الأمثل في دعوته، فقال فيما رواه الإمام مالك:
((" إنما بُعثت معلماً، إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق ".))
فالهدف الأكبر من رسالة السماء إلى الأرض ؛ هو إرساء البناء الأخلاقي للفرد والمجتمع، هذا البناء الأخلاقي هو ثمن الجنة التي خُلق الناس من أجلها.
شيء آخر: والوسيلة هي التعليم والمتتبع لنصوص القرآن الكريم وللسنة المُطهرة الصحيحة، يجد ذلك التلازم الضروري بين التدين الصحيح والخلق القويم، قال تعالى:
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)﴾
[سورة الماعون]
وقال تعالى:
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) ﴾
[سورة القصص]
وقال صلى الله عليه وسلم:
((" ألا لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له.. ".))
[جزء من حديث طويل أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود]
وقال عليه الصلاة والسلام:
((" الإيمان والحياء قُرناء جميعاً، فإذا رُفع أحدُهما رُفع الآخر ".))
[أخرجه الحاكم]
فالإيمان إذاً ؛ أساس الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر.
مما يؤكد هذا التلازم الحتمي بين التدين الصحيح والخلق القويم ما أورده الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ:
((يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ هِيَ فِي النَّارِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ هِيَ فِي الْجَنَّةِ ".))
[تفرد به الإمام أحمد]
ورد في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ".))
[أخرجه مسلم والترمذي وأحمد]
لقد بين الني عليه الصلاة والسلام، في الأحاديث الصحيحة ؛ أن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً، وأن أكملهم إيماناً أحسنهم خلقاً، وأن من أحبِ عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً، وأن من أقرب المؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنهم خلقاً، وأن خير ما أُعطي الإنسان خلق حسن، وأنه ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وأن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجةَ الصائم القائم، بل إن العبد ليَبلغُ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة، والخلق الحسن يُذيب الخطايا كما يُذيب الماء الجليد، والخلق السوء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل.
هذه مقتطفات من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم:
فمن عنايته بأصحابه، وتواضعه لهم ما رواه الحاكم بإسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بعض بيوته، فدخل عليه أصحابه حتى غص المجلس بأهله، وامتلأ فجاء جرير البجلي فلم يجد مكاناً فقعد على الباب فنزع رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه فألقاه إليه، فأخذه جرير ووضعه على وجهه، وجعل يقبله ويبكي، وأعاده إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله ما كنت لأجلس على ثوبك، أكرمك الله كما أكرمتني فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يميناً وشمالاً فقال:
((" إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ ".))
[تفرد به ابن مادة عن ابن عمر]
وعن عدي بن حاتم قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فألقى إلي وسادة من أدم محشوة ليفاً، فقال: اجلس عليها، قلت: بل أنت قال: بل أنت فقال عدي: فجلست عليها وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض، فقلت أشهد أنك لا تبغي علواً في الأرض ولا فساداً، وأسلم عدي بن حاتم.
وروى البيهقي في الدلائل: أنه وفد وفدُ النجاشي على النبي صلى الله عليه، وسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: يا رسول الله نحن نكفيك القيام بضيافتهم وإكرامهم فقال صلى الله عليه وسلم:
((إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنا أحب أن أكافئهم بنفسي ".))
ومن رحمته بالخلق: ما روى الإمام أحمد عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال:
((" عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ قَالَ فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ فَقَالَ مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ ( أي تُتعبه)".))
[أخرجه مسلم وابن ماجة وأبو داود وأحمد والدارمي]
ومن عدله صلى الله عليه وسلم: ما رواه الشيخان واللفظ للبخاري عن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ:
((أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فَفَزِعَ قَوْمُهَا إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَسْتَشْفِعُونَهُ قَالَ عُرْوَةُ فَلَمَّا كَلَّمَهُ أُسَامَةُ فِيهَا تَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَتُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ قَالَ أُسَامَةُ اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ خَطِيبًا فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فَقُطِعَتْ يَدُهَا فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَتَزَوَّجَتْ قَالَتْ عَائِشَةُ فَكَانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".))
[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد والدارمي]
ومن صبره صلى الله عليه وسلم: ما رواه الإمام أحمد والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((" لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ ".))
[أخرجه الترمذي وابن ماجة]
ومن شجاعته صلى الله عليه وسلم: ما قاله سيدنا علي كرم الله وجهه، كنا معشرَ الصحابة، إذا حمي البأس، واحمرت الحِدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقربَ إلى العدو منه.
ومن خشيته لله: أنه غضب صلى الله عليه وسلم ذات مرة من غلام وكان بيده سواك فقال له: والله لولا خشية القصاص، لأوجعتك بهذا السواك.
ومن هيبته صلى الله عليه وسلم: أنه كان فخماً مفخماً يتلألأ وجهه صلى الله عليه وسلم ـ تلألؤ القمر ليلة البدر، من رآه بديهة هابه ومن خالطه أحبه، دخل، عليه رجل فأصابته رعدة شديدة، فقال له النبي عليه الصلوات الله وسلامه:
((" هوِّن عليك فأنا لست بملك ولا جبار وإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة ".))
وكان صلى الله عليه وسلم، أعظم الناس حياءً، لأنه أعظمهم إيماناً وقد قال صلى الله عليه وسلم:
عن عَبْدِ اللَّهِ بن عمر رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ".))
[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وأحمد ومالك]
فكان أشد حياءً من العذراء في خدرها، وقد بلغ من حيائه أنه لا يواجه أحداً بما يكره.
ورحم الله من قال في مدح خير الأنام:
يا من له الأخلاق ما تهوى العُلا منها وما يتعشق الكبـــــاء
فإذا سخوت بلغت بالجود المـدى وفعلت ما لا تفعل الأنــــواء
وإذا عفوت فقادراً ومقــــدراً لا يستهين بعفوك الجُهــــلاء
وإذا رحمت فأنــت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحمـــاء
وإذا غضبت فإنما هي غضبـــة في الحق لا ضغن و لا بغضاء
وإذا خطبت فللمنابر هـــــزةٌ تعرو الندي و للقلوب بكــاء
يا أيها الأميُّ حسبك ربتـــــةً في العلم أن دانت لك العلمـاء
***
الأنواء: السحب
أيها الإخوة المؤمنون، هذه بعض شمائل النبي نعرضها على مسامعكم لتتأسوا بها، وليكون النبي عليه الصلاة والسلام قدوةً لكم.
أذكركم: بأن مهمة النبي عليه الصلاة والسلام مهمتان: مهمة التبليغ ومهمة القدوة، ولعل مهمةَ القدوة، أكبر بكثير من مهمة التبليغ، إن كل إنسان يستطيع أن يبلغ، لكن ما كل إنسان يستطيع أن يتمثل مكارم الأخلاق، فإذا بلَّغ كان قدوةَ حسنةً ومثلاً يحتذى.
أيها الإخوة الكرام حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة الكرام: " لقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جمَّ التواضع، وافر الأدب، يبدأ الناس بالسلام، وينصرف بكله إلى محدثه، صغيراً كان أو كبيراً، ويكون آخر من يسحب يده إذا صافح، وإذا تصدق وضع الصدقة بيده في يد المسكين، وإذا جلس جلَس حيث ينتهي به المجلس لم يُرَ ماداً رجليه قط، ولم يكن يأنف من عمل لقضاء حاجته، أو حاجة صاحب، أو جار، كان يذهب إلى السوق، وهو سيد الخلق وحبيب الحق، ويحمل حاجته بيده ويقول: أنا أولى بحملها، وكان يجيب دعوة الحرِّ، والعبد والمسكين، ويقبل عذر المعتذر، وكان يرفو ثوبه ويخصف نعله، ويكنُس داره، ويخدم نفسه، ويعقل بعيره، وكان في مَهنة أهله، وكان يأكل مع الخادم ويقضي حاجة الضعيف والبائس وكان يمشي هوناً، خافض الطرف متواصل الأحزان، دائم الفكرة، لا ينطق من غير حاجة، طويل السكوت، إذا تكلم، تكلم بجوامع الكلم، كان دمثاً ليس بالجافي، ولا المهين، يعظم النِّعم وإن دقَّت، ولا يذمُّ منها شيئاً، ولا يذمُّ مذاقاً (يعني ما عاب طعاماً قط ) ولا يمدحه أيضاً، ولا تُغضبه الدنيا، ولا ما كان منها، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها إذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، كان يؤلِّف ولا يُفرق ويُقرب ولا يُنفر، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم يتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس يُحسَّن الحسن ويصوبه، ويُقبِّح القبيح ويوهِّنه لا يُقصِّر عن حق، ولا يتجاوزه، ولا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو ما يَسرُّه من القول، كان دائم البشر، سهل الخُلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخَّاب ولا فحّاش، ولا عيّاب، ولا مزّاح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يُخيِّب فيه مؤمله، وكان لا يذم أحداً، ولا يعيِّره ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يُرجى ثوابه، يضحك مما يضحك منه أصحابه، ويتعجب مما يتعجبون، ويصبر على الغريب وجفوته في مسألته ومنطقه، لا يقطع على أحدٍ حديثه حتى يجوزه ".
والحديث عن شمائله صلى الله عليه وسلم لا تتسع له المجلدات ولا خطب في سنوات، ولكن الله جل في علاه لخصها في كلمات فقال: