((وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُـبْصِرُونَ))
الحَمْدُ للهِ العليمِ الخَبيرِ، خَلَقَ الإِنْسانَ في أَبْدَعِ تَصويرٍ، وأمرَهُ بحُسْنِ التَّدبيرِ والتَّفكيرِ، سبحانهُ نَصَبَ آياتِهِ على وَحدانِيَّتِهِ دليلاً، ((رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً))(1)، نَحمدُه تعالى كما ينبغي لِجلالِ وَجْهِهِ وعظيمِ سُلطانهِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شريك له، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وصفيُّهُ من خلْقهِ وخليلُه، كانَ صَمْتُهُ فِكْراً ونَظَرُهُ عِبْرةً، صلى اللهُ عليهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، ومَنْ سارَ على دَرْبِهِ واقتفَى أثرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فأُوصيكم ونَفْسِي –عبادَ اللهِ- بتقوى الله، والعملِ بما فيهِ رضاهُ، فاتَّقوا الله وراقبوهُ، وامتثلوا أوامِرَهُ ولا تَعصوه، واعلموا -رحمكم اللهُ تعالى- أنَّ القُرآنَ الكريمَ وَجَّهَ العقلَ البَشَرِيَّ إلى النَّظَرِ في مَلَكُوتِ السَّماواتِ والأَرْضِ؛ لِيَكْشِفَ حَقَائِقَ الوُجودِ، ويَرسُمَ الصُّورةَ الحيَّةَ لِعِبادَةِ الوَاحدِ المَعبُودِ، ويَرفَعَ الحُجُبَ عَنْ أَسْرارِ الكَونِ وعَجائبهِ، ويَتبيَّنَ آياتِ اللهِ في الأَنْفُسِ والآفاقِ؛ تَحقيقاً لِقَولِ المُبدعِ الخَلاَّقِ: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ))(2)، وكُلَّما عَظُمَ شأنُ الكَونِ المَخلوقِ في أعيُنِ النَّاسِ عَظُمَ شأنُ خالقهِ المُبدعِ سُبحانهُ، ووَجَدَ الإيمانُ الرَّاسخُ طريقَهُ إلى القلوبِ النَّقيَّةِ الطَّاهرةِ، يقولُ اللهُ تعالى: ((قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ))(3)، لذا كان القرآنُ الكريمُ يُوجِّهُ الناسَ إلى النَّظَرِ في ملكوتِ السماواتِ والأرضِ، فتارةً يُوجِّهُهُم إلى النَّظَرِ الحِسِّيِّ البسيطِ الذي يَستطيعُ القيامَ به كُلُّ فردٍ مَهما كانتْ دَرَجةُ ثقافتِه، يقولُ اللهُ تعالى: ((أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ))(4)، بينما يُوجِّهُهُم تارةً أُخرى إلى النَّظَرِ العميقِ المُتأنِّي فيقول: ((وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ))(5).
أيُّها المُؤمنُون:
إنَّ مِنْ أعظمِ الآياتِ الدالَّةِ على وجودِ الخالقِ، القاطعةِ على وَحدانِيَّةِ الرَّازقِ، هذا الإنسانَ العجيبَ في خَلْقِهِ، السويَّ في تَصوِيرهِ ونُطْقِهِ، ولمَّا كانَ أَقْرَبُ الأشياءِ إلى الإنسانِ نفسَهُ، دعاهُ خالِقُهُ إلى التَّبَصُّرِ والتَّفكُّرِ فيها فقالَ: ((وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)) (6) ، نَعَمْ.. إنَّ الإنسانَ إذا تأمّلَ في تركيبِ بَدَنِهِ، والتَّنَاسُقِ بينَ أعضاءِ جَسَدهِ، وكيفَ أنَّ اللهَ اختارَ أنْ يكونَ كلُّ عُضْوٍ في مَحلِّهِ الذي يُناسِبُه، لِيُؤدِّيَ وَظِيفَتَهُ المُناطَةَ بهِ، لَوَجَدَ ما تَتَحيَّرُ فيهِ الأَذْهَانُ، وتَتَيهُ على مَرِّ العُصُورِ والأَزْمَانِ، وكذلِكَ إذا نَظرَ في حالِ ابتداءِ خِلْقتِهِ ثم تَنقُّلِهِ مِنْ طَوْرٍ إلى طَوْرٍ، وما أودَعَ اللهُ في باطنِهِ وظاهرِهِ مِنْ عجائبِ الفِطَرِ وبدائعِ الخَلْقِ، وحَسْبُكُم ما كرَّمَ اللهُ بهِ الجِنْسَ البَشَريَّ مِنَ العُقُولِ والقُلوبِ، والألسُنِ والنُّطْقِ وأنواعِ مخارجِ الحُرُوفِ، وما في اختلافِ تَركِيبِ هذهِ النُّفُوسِ وترتيبِها ولَطَائفِها مِنَ الآياتِ السَّاطعةِ والبَيِّناتِ القاطعةِ على عَظَمَةِ الخالقِ جلَّ وعلا، إنَّهُ لَدلِيلٌ صادقٌ، وبُرهانٌ ناطقٌ على عَظِيمِ قُدْرَةِ رَبِّ العالَمينَ، فَتَباركَ اللهُ أَحْسَنُ الخالقينَ.
عبادَ الله :
لقد أطالَ القرآنُ الكريمُ الحديثَ عَنِ الإنسانِ في أصلِ وجودهِ، وفي تَطَوُّرِ خَلْقهِ في بَطْنِ أُمِّهِ، بلْ وفي خصائصِهِ وما يتميّزُ بهِ عَنْ سائرِ المخلوقاتِ، بالإجمالِ تَارةً وبالتَّفْصيلِ تارةً أخرى، يقولُ اللهُ تعالى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ))(7)، وعندما أرادَ القرآنُ تأكيدَ عقيدةِ البَعْثِ والرَّدَّ على الشَّاكِّينَ فيها استدلَّ بِتَطَوُّرِ مَراحِلِ خَلْقِ الإنسانِ فقال سُبحانه: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ))(
، ومَعْ وِحْدَةِ مَبْدَإِ كُلِّ إنسانٍ مِنْ حيثُ الخِلْقةُ، فقدْ شاءتْ إرادةُ اللهِ تعالى أنْ تَظهرَ طَبِيعةُ الاختلافِ بَيْنَ النَّاسِ جَمِيعاً، فَجَعَلَهُمْ مُختَلِفِينَ في العَقْلِ والتَّفكيرِ، والنُّطْقِ والتَّدبيرِ، والأُسلُوبِ والبَيانِ، واللُّغَاتِ والأَلْوانِ، يقُولُ تعالَى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ))(9)، كما جَعَلَهُمْ مُختَلِفِينَ في المَواهِبِ والمَلَكَاتِ، مُتَفَاوتِينَ في الأَعْمارِ والأَرزَاقِ، وهذا يَزيدُ مِنْ تَعَلُّقِ المُؤمنِ باللهِ، ودَوامِ الصِّلَةِ بهِ جلَّ في عُلاهُ؛ إذْ يُدْرِكُ الإنسانُ بالتَّأَمُّلِ في ذَلِكَ أنَّ كلَّ فَردٍ مِنْ هذا الجِنْسِ عالَمٌ وَحْدَهُ، ومِرآةٌ يَنعكِسُ مِنْ خِلالِها هَذَا الوُجُودُ كلُّهُ، في صُورَةٍ خاصَّةٍ لاَ تَتكرّرُ أَبداً علَى مَدارِ الدُّهُورِ، ولاَ نَظِيرَ لَهُ بَيْنَ أَبناءِ جِنْسِهِ جَمِيعاً، لاَ في شَكْلِهِ ومَلامِحهِ، ولا في عَقْلِهِ ومَداركِهِ، ولا في رُوحِهِ ومَشَاعِرهِ، وما تَراهُ العُيونُ مِنْ عجائبِهِ يُشيرُ إِلَى المُغَيَّبِ المكنونِ.
أيُّهُا المُؤمنُون :
إِنَّ الإِنْسانَ عَجِيبٌ في تَكوينِهِ كُلِّه، فَحيثُما وَقْفَ الإِنْسانُ يَتأَمَّلُ عَجائِبَ نَفْسِهِ، سَطَعَتْ لَهُ أَسْرارٌ تُدهِشُ وتُحيِّرُ، في تَكْوِينِ أَعضَائِهِ وتَوزيعِها، ووَظَائفِها وطَرِيقَةِ أَدائِها، وَبِكُلِّ ما يَحملُهُ هَذَا الكَيَانُ مِنْ أَجْهِزَةٍ وأَوْرِدَةٍ، تَتَجاوبُ وتَتَعاونُ مَعْ بَعْضِها البَعْض بِانتِظَامٍ دَقيقٍ، فَلْنَقِفْ وَقْفةَ تَأَمُّلٍ وتَفكُّرٍ أَمامَ اللَّحظَةِ الَّتي يَبدأُ فيها الجَنِينُ حياتَهُ على الأَرضِ - وهُو يَنفصِلُ عَنْ أُمِّهِ ويَعتمِدُ علَى نَفْسِهِ، ويُؤْذَنُ لِقَلْبِهِ ورِئَتَيهِ بِالحَركَةِ لِبِدْءِ الحَياةِ- إِنَّ هَذهِ الوَقْفَةَ لَتَغْمُرُ النَّفْسَ بِفَيْضٍ مِنَ الإِيْمَانِ، لاَ يَقِفُ لهُ قَلْبٌ ولا يَتماسكُ لهُ وِجْدَانٌ، ووَقْفَةٌ أُخرى أمامَ اللَّحظةِ التي يَتحركُ فيها لِسانُ الوليدِ لِينطقَ بهذهِ الحُروفِ والمقاطِعِ والكَلِمَاتِ ثُمَّ العباراتِ، إنَّها عَجيبةٌ خارِقَةٌ مُذهِلةٌ، تُنبِئُ عَنِ القُدْرَةِ التي لا تَكُونُ إلاَّ بأَمْرِ الخَالِقِ جَلَّ وعَلاَ، وصَدَقَ اللهُ العظيمُ إذْ يَقُولُ في وَصْفِ نَفْسِه: ((الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ )) (10) ، إنَّ القُرآنَ الكريمَ بِمِثلِ هذهِ اللَّمْسَةِ الرَّفيعةِ يَرسُمُ صُورةَ خَلْقِ الإنسانِ؛ لِيَصِلَهُ بخالِقِهِ الواحدِ الدَّيَّانِ، معْ أنَّ الطِّبَّ الحَدِيثَ بآلاتِهِ الدَّقِيقةِ وأَجهزتِهِ العريقةِ قدْ اكتشفَ هذهِ الدَّقَائقَ مُؤَخَّراً، إلاَّ أنَّ القُرآنَ الكريمَ قدْ تَحدَّثَ عَنْها سَابِقاً، فقدْ خَلَقَ اللهُ تعالى الإِنْسانَ حَيّاً مُتحرِّكاً لَهُ قَصْدٌ وإرادةٌ، ولهُ نَفْسٌ تُوجِّهُهُ إمَّا إلى الخَيْرِ وإمَّا إلى الشَّرِّ، وكُلُّ عَضْوٍ مِنْ أَعضائِهِ لَهُ فِعْلٌ خاصٌ، إذَا تَعطَّّلَ نَقَصَتْ حَرَكَةُ الإِنْسانِ وأَعمالُه بِحَسَبِهِ، ألاَ وإنَّ مِنْ أَعظَمِ الأَعْضَاءِ تأثيراً على الجَسَدِ في الصَّلاَحِ والفَسَادِ القَلْبَ، يَقُولُ النَّبيُّ ( : ((ألاَ وإنَّ في الجَسَدِ مُضغةً، إذَا صلُحَتْ صَلُحَ الجَسَدُ كُلُُّه، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّه، ألاَ وهِيَ القَلْب))، وهَذَا القَلْبُ إِنَّما يَتَأثَّرُ بالنَّفْسِ، فإِنْ كَانَتِ النَّفْسُ طَيِّبَةً زَكِيَّةً، أثَّرَتْ في القَلْبِ صلاحاً واتِّجاهاً نَحْوَ الخَيْرِ، وإنْ كانَتْ نَفْساً خَبِيثةً انحرَفَتْ بهِ نَحْوَ الشَّرِّ، ولِهذا كَانَ النَّبيُّ ( يقولُ: ((نَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنفُسِنا وَمِنْ سيِّئَاتِ أَعمالِنا))، ويقولُ: ((اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي، وقِنِي شَرَّ نَفْسي))، وفي هَذَا جَاءَ قَولُهُ تَعالى: ((وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي))(11)، وهَكذَا يُربِّي الإسلامُ هَذِهِ النَّفْسَ، حتَّى تُدرِكَ عَظَمَةَ الخالِقِ الذي أَبْدَعَ صُنْعَ هذا الإنسانِ، وأحسْنَ خَلْقَهُ، وهيّأهُ لِيَكُونَ خليفةً في هذهِ الأرضِ، بِطَبِيعَةٍ تَستَحِقُّ الإِعجابَ، وتُبْهِرُ العُقُولَ والأَلْبَابَ.
فاتقُوا اللهَ -عِبادَ الله-، وتَفَكَّرُوا في أنفُسِكُم، وتَأَمَّلُوا فيها وابحثُوا في أسرارِها؛ يَفْتَحِ اللهُ لكُمْ آفاقَ عِلْمِهِ وحِكْمَتِه، ويَزِدْكُم مِنْ آلائِهِ ونِعْمَتِهِ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
لقدْ منحَ اللهُ الإنسانَ القُدْرةَ على فَهْمِ أسرارِ الكَونِ، فَحَرِيٌّ بهِ أنْ يَصِلَ إلى مَعْرِفَةِ أسرارِ ذاتِه، تلكَ النَّفْسُ التي وَضَعَها القُرآنُ في كَفَّةٍ مع الكُونِ كُلِّهِ بما فيهِ مِنْ عوالِمَ عندما قالَ: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)) (12) ، وإذا كانَ الإنسانُ قدْ نَجَحَ في اكتشافِ الكُونِ مِنْ حوْلِهِ فإنَّهُ مَدْعُوٌ لاكتشافِ هذهِ النَّفْسِ بما فيها مِنْ أبعاد، وبما لها من قُوىً دافعةٍ، واتجاهاتٍ مُتعدِّدةٍ في دُرُوبِ الحياةِ المُختَلِفَةِ، وقدْ قرَّرَ القرآنُ الكريمُ أصلَ خَلْقِ الإنسانِ ومراحلَ تَخلُّقِهِ ونُموِّهِ؛ لِيتَّخِذَها مَجالاً للتدبُّرِ في صُنْعِ اللهِ ومَلَكُوتِهِ، ولْنَتأمَّلِ النُّقْلةَ البعيدةَ بينَ أصْلِ الخِلْقةِ الطِّينِيِّ وتَسلسُلِ النَّسلِ البَشريِّ، فقد نشأََ الجِنْسُ الإنسانيُّ في بِدايتِهِ مِنْ سُلالةٍ مِنْ طِينٍ، قال تعالى: ((الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ))(13)، فأمَّا نشأةُ الفَردِ الإِنسانيِّ بَعْدَ ذلك فتمضي في طريقٍ آخرَ، يقولُ تعالى: ((ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ))(14)، وهنا يقفُ الإنسانُ مَدهُوشاً أمامَ ما كَشفَ عنهُ القرآنُ منْ حقيقةٍ في تكوينِ الجنينِ ومراحلِ نُمُوِّهِ لم تُعْرَفْ على وجهِ الدِّقَّةِ إلاَّ بَعْدَ تَقَدُّمِ عِلّمِ الأَجِنَّةِ، فتباركَ اللهُ أَحْسَنُ الخالقِينَ.
فاتقوا اللهَ -عبادَ الله-، وأمْعِنوا النَّظَرَ في أنفُسِكُم، فإنَّ فيها مِنَ الآياتِ العظميةِ والمواعِظِ الجليلةِ ما يَزيدُكم إيماناً باللهِ، ودلالةً على وحدانيَّتِهِ وكمالِ تدبيرِهِ.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: ((إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (15).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.