حمد لله الذي يقبل التوبةَ عن عباده ويعفو عن السيئات، سبحانه كتَب على نفسه الرحمة، وأشهد أن لا إله إلا الله الرحمن الرحيم، غافر الذنب وقابل التوب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نبي الرحمة، وهادي الأمة إلى ما فيه الخير وما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين عرفوا الله فعرفهم الله، وأطاعوا الله فأعلى قدرَهم، رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه.
أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن كلَّ فردٍ منا مأمور بأن يتمسَّك بحبل الله المتين، وصراطه المستقيم، وجادة الحق التي لا اعوجاج فيها، ذلك هو ما أُوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجعله الله تعالى شرفًا لرسوله صلى الله عليه وسلم وأُمَّته، وأنهم سيُسألون عن العمل به واحترامه وتقديره والتمسك به، وعن شُكْر هذه النعمة التي هي نعمة الإسلام ونعمة الإيمان؛ قال تعالى: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 43، 44]، ولقد أوجب الإسلامُ على كلِّ فردٍ حقوقًا والتزامات لله تعالى وللخَلْق؛ لأنه دين عبادات ومعاملات، ولكن كثيرًا ما يَضِل الإنسان ويتنكَّب الجادَّةَ بوازع الجهل أو النَّفْس الأمارة بالسوء، وبتحسين وتزيين عدو الله وعدوكم الشيطان، وجنوده من شياطين الجن والإنس الذين يوحي بعضهم إلى بعض زُخرفَ القول غرورًا، ومعلوم أن الإنسان لم يُخْلَق مَلَكًا كريمًا، ولا بشرًا معصومًا، وإنما هو إنسان تتجاذبه قوى الخير والشر، وداعي الحق وداعي الضلال، تارة تتغلَّب عليه قوى الخير فيَطهُر قلبه، وتسمو رُوحه، وترتفع إلى عالم السماء، وتارة تتغلَّب عليه قوى الشر، فيَنغمِس قلبه في سوء الذنوب ويتلطَّخ بآثامها، وتَحُطه إلى الحضيض الأسفل، وتَخلُد نفسه إلى الأرض، فمَثَلُه مَثَلُ الكلب؛ إن تَحمِل عليه يَلهَث أو تتركه يلهث، وهنا يحتاج الإنسان إلى أن يُصحِّح أخطاءه، ويُعالِج أمراضه، ويَغسِل نفسه، ويُطهِّر قلبَه مما ران عليه، ويَستأنف العملَ، مستقبلاً حياته في ثوب جديد نقي ما دام الباب مفتوحًا، والفرصة مواتية، قبل أن يُوصَد أمامه فلا يجد إلى ذلك سبيلاً، ولا إلى بلوغ مرامه طريقًا، وذلك بالتوبة والإنابة، والرجوع عن التمادي في الغي والضلال؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون))، وقال أيضًا: ((إن الله يَبسُط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويَبسُط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل، حتى تَطلُع الشمس من مغربها))؛ رواه مسلم.
فمن رحمة الله سبحانه بنا أن فتَح باب الأمل والرجاء أمام الخطائين؛ ليتوب مسيئُهم، ويؤوب إلى رُشْده شاردُهم، فيَغفِر لهم ما اقترفوا من إثم أو معصية، قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
وفي الحديث القدسي ما يدل على سَعَة عفوه ومغفرته، وقَبُول الدعاء ممن لم يُشرِك به شيئًا؛ قال تعالى: ((يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتَني، غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغتْ ذنوبك عَنان السماء ثم استغفرتَني، غفرتُ لك ولا أبالي، يا بن آدم، إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشرِك بي شيئًا، لأتيتُك بقُرابها مغفرة)).
ولطفًا بعباده أنه يفرح بتوبتهم أشد مِن فرَح أحدِهم يجد راحلتَه، وقد أضلَّها بأرض فلاة، أو فرَحِ مَن تحرَّكت سيارته وصلحت بعد تعطُّلِها وخرابها في صحراء لا ماء فيها ولا مرعى.
أيها المسلمون، توبوا إلى الله توبة نصوحًا؛ عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم، فالتوبة النصوح تجدون ثوابها: تكفير السيئات، ودخول الجنة؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8].
والتوبة النصوح أيها المسلمون: هي ما جمعت شروطها؛ فإن كانت المعصية بين العبد وربه، فلها ثلاثة شروط: الأول: أن يُقلِع عن المعصية، والثاني: أن يَندَم على ما فعله، والثالث: أن يَعزِم على ألا يعود إليها أبدًا، مع وجوب الإخلاص في ذلك كله لله وحده لا شريك له، فإن فقَد أحدَ الثلاثة، لم تَصِح توبته.
وإن كانت المعصية تتعلَّق بحق آدمي، فشروطها أربعة:
هذه الثلاثة، والرابع: أن يبرأ من حقِّ صاحبها؛ فإن كانت مالاً أو نحوه، ردَّه إليه، وإن كانت حد قَذْف، استسمح صاحبه، أو مكَّنه لاستيفائه منه، فالقِصاص في الدنيا خير وأفضل من القِصاص في الآخرة.
أيها المسلمون، والمُفلِس كلَّ الإفلاس مَن أتى يوم القيامة وقد شتم هذا، وظلَم هذا، وأخَذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن لم تَعُد له حسنات، أُخذ من سيئاتهم فحُطَّت عليه وطُرِح في النار، فالإنسان يكتب عليه ثلاثة دواوين؛ ديوان لا يغفره الله إن مات قبل التوبة منه، وهو الشرك بالله، وديوان قابل للمغفرة، وهو ظُلْم العبد نفسه فيما بينه وبين الله تعالى فهو تحت المشيئة، وديوان محفوظ على الإنسان تحت القِصاص يوم القيامة أو التخلص منه قبل الموت، وهو ظُلْم الإنسان لأخيه الإنسان.
فاتقِ الله يا أخي المسلم، وابتعد عن ارتكاب الذنوب، واجتهد في التخلص منها إن بليت بارتكابها قبل مُعاينة الموت أو أمارته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 17، 18].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.