حين يستعرِض المرء ما كتبه علماء السلف حول أخلاق أهل القرآن وآداب حملته، يستشعر حِرصًا جليًا على صيانة حدود المرتبة الرفيعة التي يحظى بها من وُصِفوا في الحديث النبوي بأشراف الأمة وأهل الله وخاصته. ولعل استحضار بعض هذي الآداب يستمد اليوم وجاهته من الأثر السيء لبريق الكاميرا وسطوة الإعلام على ناشئتنا من حملة القرآن.
روى ابن قتيبة في (عيون الأخبار) عن الحسن قال: "قراء القرآن ثلاثة: رجل اتخذه بضاعة ينقله من مصر[ ] إلى مصر يطلب به ما عند الناس، وقوم حفظوا حروفه وضيعوا حدوده، واستدروا به الولاة واستطالوا به على أهل بلادهم وقد كثر الله هذا الضرب في حملة القرآن لا كثَّرهم الله! ورجل قرأ القرآن فبدأ بما يعلم من دواء القرآن فوضعه على داء قلبه، فسهر ليله وهملت عيناه، تسربلوا الخشوع[ ] ، وارتدوا الحزن، وركدوا في محاريبهم، وجثوا في برانسهم، فبهم يسقي الله الغيث، وينزل النصر، ويرفع البلاء. والله لهذا الضرب في حملة القرآن أقل من الكبريت الأحمر".
ولا شك أن هذا التوصيف ينطبق اليوم على واقعنا المعاصر ونحن نعاين تشكل جيل أقل تأدبًا مع القرآن.. جيلٌ لا يعنيه من رسائل ربه غير الأداء النغمي وحشد المعجبين!
شكَّل الهدي النبوي مُنطلِقًا لما يمكن أن نُسمِّيه بأخلاقيات حامل القرآن، والتي تتوزَّع حسب الحديث الشريف وأقوال الصحابة[ ] بين آداب تعلُّمِه وتلاوته، وبين ما ينبغي على حامله لزومه من سلوك وأخلاق في علاقته بالمجتمع. فمن آداب تعلُّمِه ما رواه ابن ماجة في سننه وصحَّحه الألباني[ ] من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كُنَّا مع النبي[ ] صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة[1] فتعلَّمنا الإيمان[ ] قبل أن نتعلَّم القرآن، ثم تعلَّمنا القرآن فازددنا إيمانًا".
ومنها إخلاص التلاوة والعمل به لله تعالى، فعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعلَّموا القرآن وسلوا الله به قبل أن يتعلَّمه قومٌ يسألون به الدنيا[ ] ، فإن القرآن يتعلَّمه ثلاثة نفر: رجلٌ يباهي به، ورجلٌ يستأكل به، ورجلٌ يقرأه لله» ولا يتحقَّق الإخلاص[ ] إلا بتطهير القلب[ ] من متعلَّقات الدنيا ودنس الأهواء.
ومنها لزوم الخشوع والتدبُّرعند الشروع في تلاوته حتى تتجاوب النفس[ ] مع دلالاته، وتتمثَّل مقاصده وغاياته. والأخبار في هذا الباب أظهر وأشهر، فقد روى النسائي وابن ماجة من حديث أبي ذر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بآية يُردّدها حتى أصبح وهي {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة :120]".
وعن عباد بن حمزة رضي الله عنه قال: "دخلت على أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما وهي تقرأ: {فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:25]، فوقفت عندها فجعلت تُعيدها وتدعو، فطال علي ذلك، فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي تُعيدها وتدعو". وهذا أدب لا يبلغه من كانت همته آخر السورة!
ومنها تعهُّده والمحافظة على تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، والحذر من تعريضه للنسيان. رُوِيَ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجزه شيء عن قراءة القرآن إلا الجنابة".
وفي صحيح البخاري[ ] ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها»، بل إنه عند تعريض سورة أو آية للنسيان من أعظمالذنوب[ ] ، روى أبو داود في سننه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عُرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعُرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها».
أما ما ينبغي التخلُّق والالتزام به من قواعد السلوك إجلالًا للقرآن الكريم، فإن كثيرًا من مُصنَّفات السلف أجادت في بسطه وأفادت، وحرص مؤلفوها على تضمينها من مأثورالقول والفعل ما يؤسس لأخلاقيات حامل القرآن. ويمكن أن نعقد اللواء دون شك في هذا الباب للحافظ والمُحدِّث "أبي بكر الآجري" رحمه الله الذي يشكل مُصنَّفه (أخلاق أهل القرآن) علامة فارقة في أدبياتالتربية[ ] والسلوك، بل يمكن القول أن أغلب المتأخرين ممن ألَّفوا في هذا الباب هم عالة على منهجه وأسلوب عرضه!
يُفرِد "الآجري" الباب الرابع من كتابه لتحديد مَعالِم الإطار الأخلاقي الذي يجدر بحامل القرآن أن يتحرَّك داخله، وهو في الحقيقة لم يدع خُلقًا حسنًا أو قيمة إيجابية أو أدبًا رفيعًا إلا وحثه على لزومه. ويتبيَّن لنا من خلال جملة الوصايا التي أوردها في هذا الباب إضافة إلى الصورة القاتمة التي رسمها في الباب: الخامس، المعنَّون بـ(أخلاق من قرأ القرآن لا يريد به الله عز وجل) أن أخوف ما يخافه الآجري على حامل القرآن هو فساد الزمان وأهله، لذا نراه يوصي القارئ بلزوم تلاوة مُتحرِّكة لكتاب الله لا يُباشِرها اللسان[ ] فحسب بل يمتد أثرها ليشمل سائر الجوارح:
"فأول ما ينبغي له أن يستعمل تقوى الله في السِّرِ والعلانية باستعمال الورع في مطعمه ومشربه وملبسه ومسكنه. بصيرًا بزمانه وفساد أهله، فهو يحذرهم على دينه، مُقبِلًا على شأنه، مهمومًا بإصلاح ما فسد من أمره، حافظًا للسانه مميزًا لكلامه. إن تكلَّم تكلَّم بعلمٍ إذا رأى الكلام صوابًا، وإذا سكت سكت بعلمٍ إذا كان السكوت صوابًا، قليل الخوض فيما لا يعنيه، يخاف من لسانه أشد مما يخاف من عدوه. يحبس لسانه كحبسه لعدوه ليأمن من شرَّه وشر عاقبته. قليل الضحك إن مرَّ بشيءٍ مما يُوافق الحق تبسَّم. يكره المزاح خوفًا من اللعب، فإن مزح قال حقًا. باسط الوجه، طيب الكلام، لا يمدح نفسه بما فيه فكيف بما ليس فيه؟! يحذر نفسه أن تغلبه على ما تهوى مما يسخط مولاه. لا يغتاب أحدًا، ولا يحقِر أحدًا، ولا يسبُّ أحدًا، ولا يشمت بمصيبة، ولا يبغي على أحد، ولا يحسده ولا يسيء الظن بأحدٍ إلا لمن يستحق، يحسد بعلمٍ ويظن بعلمٍ ويتكلَّم بما في الإنسان من عيبٍ بعلمٍ، ويسكت عن حقيقة ما فيه بعلم. قد جعل القرآن والسنة والفقه دليله إلى كل خلق حسن جميل.." (أخلاق أهل القرآن، ص: [77-78]، دار الكتب العلمية، بيروت 2003م).
أما المراد من التلاوة فينبغي أن ينصرِف لما هو أبلغ وآكد من ختم السورة "يتصفح القرآن ليؤدب به نفسه. لا يرضى من نفسه أن يؤدي ما فرض الله عليه بجهل، قد جعل العلم[ ] والفقه دليله إلى كل خير، إذا درس القرآن فبحضور عقلٍ وفهم. هِمَّته إيقاع الفهم لما ألزمه الله من اتباع ما أمر والانتهاء عما نهى. ليس هِمَّته متى أختم السورة، هِمَّته متى استغني بالله عن غيره، متى أكون من المتوكلين، متى أكون من الخاشعين، متى أكون من الصابرين، متى أكون من الصادقين، متى أكون من الخائفين، متى أكون من الراجين، متى أزهد في الدنيا، متى أرغب في الآخرة، متى أتوب من الذنوب، متى أعرف النعم المتواترة، متى أشكره عليها، متى أعقل عن الله الخطاب، متى أفقه ما أتلو، متى أغلب نفسي على ما تهوى، متى أُجاهِد في الله حق الجهاد[ ] ، متى أحفظ لساني، متى أغض طرفي، متى أحفظ فرجي، متى أستحي من الله حق الحياء[ ] ..
متى أشتغل بعيبي، متى أصلح ما فسد من أمري، متى أحاسب نفسي، متى أتزوَّد ليوم معادي، متى أكون عن الله راضيًا، متى أكون بالله واثقًا، متى أكون بزجر القرآن متعظًا، متى أكون بذكره عن ذكر غيره مشتغلًا، متى أُحب ما أَحب ومتى أبُغِض ما أَبغض، متى أنصح لله، متى أُخلِص في عملي، متى أقصر أملي، متى أتأهب ليوم موتي وقد غُيِّب عني أجلي، متى أُعمِّر قبري، متى أُفكِّر في الموت[ ] وشدته، متى أُفكِّر في خلوتي مع ربي، متى أُفكِّر في المنقلب، متى أحذر مما حذرني منه ربي، من نارٍ حرها شديد وقعرها بعيد وعمقها طويل، لا يموت أهلها فيستريحوا، ولا تَقالَ عثراتهم ولا ترحم عبراتهم.." (أخلاق أهل القرآن، ص: [79-80]، دار الكتب العلمية، بيروت 2003م)
وعلى نفس المِنوال.. يمضي الآجري في ذمِّ قراء الدنيا وعرض مثالبهم، فيضع حامل القرآن أمام صور منفرة لما يبديه هؤلاء من زراية بكتاب الله، وتضييع لحدوده واتخاذه بضاعة يتأكلون به الأغنياء، ويفخرون بما عندهم من حسن الصوت أوجودة الحفظ ليبلغ صيتهم الملوك وعلية القوم! وبذلك يستكمل الآجري منظومته التربوية التي خص بها أهل القرآن بوضعهم أمام الخلق السني وما يضاده من خُلقٍ دنيء.
إن سطوة الإعلام وأثره البالغ على الفكر والسلوك يفرض على دور القرآن والجمعيات الأهلية لتحفيظ كتاب الله استدعاء منظومة كهذه تأمينًا للسير على نهج السلف في الجمع بين الرواية والدراية، وبين العلم والعمل. ولا يخفى أيضًا في هذا الباب ما للقدوة من أثر على توجيه السلوك وتقويمه من خلال استحضار سير مشاهير القراء وشيوخ التلاوة، ممن لم تغرّهم المكانة وذيوع الصيت، أو يثنيهم خوف من ذوي الشأن والسلطان عن إجلال القرآن.
إنه لمن المؤسف حقًا أن تنصرِف الهِمَم إلى العناية بالأداء النغمي للمشاهير، وملامح الإبداع والتميز في تلاواتهم مع تقصير واضح في الاهتمام بجوانب من سلوكهم ومدى تخلقهم بأخلاق القرآن وذودهم عن حياضه، فالشخصية القرآنية ليست صوتًا أو أداءً فحسب؛ بل هي أيضًا سلوك وموقف وقيم تنهل من معين الرسائل الربانية. إن القارئ الشيخ "محمد رفعت" رحمه الله صوت أذهل الملايين بقوته وطلاوته، لكنه أيضًا الرجل الزاهد الذي وهب حياته لخدمة القرآن وآثر شظف العيش والكفاف على متاع الدنيا وزينتها.
ومن يستحضر سيرة القارئ الشيخ "منصور بدار" يجد نفسه أمام صوت يُعَد بحقٍ نفحة سماوية، فهو المنبع الذي نهل منه كبار القراء أمثال الشيخ "مصطفى إسماعيل" رحمه الله. كما يجدها أمام رجل لم يحل علو المكانة وحظوته لدى السلاطين والزعماء من التصدي لكل ما يخل بمجلس القرآن. ومن الوقائع التاريخية التي يرتبط بها اسمه توقفه عن التلاوة في مأتم الملك فؤاد عام 1936م، وحين سئل عن السبب أشار إلى وريث العرش الأمير فاروق الذي يدخن داخل السرادق، وأصر على عدم إتمام التلاوة حتى يطفئ الأمير سيجارته أو يخرج، فأذعن الملك الجديد وكف عن التدخين[ ] ! وقِس على ذلك شواهد عديدة من سير المقرئين تنم عن إدراكهم لما رمى إليه "الفضيل بن عياض" رحمه الله بقوله: "حامل القرآن حامل راية الإسلام"!
إن ما يجدر بكل قارئ لكتاب الله أن يبلِّغه ليس هو الصوت الحسن والإلمام بأصول التلاوة وأحكامها، أو اتخاذ التدبر غاية في حدِّ ذاته، كما يقول الأستاذ "محمد قطب" رحمه الله، فتلك وسائل لأمرٍ عظيم يراد: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر من الآية:22]، وذلك هو الأمر العظيم المراد: أن يتحوَّل الاستماع إلى القرآن وتلاوته والتأثُّر الخاشع به إلى {هُدَى}... إلى سلوك ملتزم بما أنزل الله في الكتاب".
ذاك هو عصب التلاوة..
وتلك هي بغية حامل القرآن!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- (الحزور: من قوي واشتد وقارب البلوغ).