الحجر الأسود... حجر من الجنة، ففي الحديث عن ابن عباس قال: قال رسول الله –صلى الله عليه و سلم-: "نزل الحجر الأسود من الجنة"([1]).
نزل به جبريل عليه السلام ليصير أشرف أجزاء الكعبة المُشرفة، أول بيت وُضع في الأرض لعبادة رب العالمين؛ يقول الله –تعالى-: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }([2]).
يقول النبي –صلى الله عليه و سلم- في الحجر الأسود: " نزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضا من الثلج، فسودته خطايا بني آدم"([3]).
قصة وضع الحجر الأسود:
كانت الكعبة رَضْمًا فوق القامة، ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل عليه السلام، ولم يكن لها سقف، فسرق نفر من اللصوص كنزها الذي كان في جوفها، وكانت مع ذلك قد تعرضت ـ باعتبارها أثرًا قديما ـ للعوادي التي أدهت بنيانها، وصدعت جدرانها، وقبل بعثته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين جرف مكة سيل عرم انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصًا على مكانتها([4]).
قامت قريش بهدم البيت الحرام واعادة بناءة من جديد، وقد شُرف النبي –صلى الله عليه و سلم- بالمُشاركة في بناء الكعبة، ثم قَرُب البناء على التمام وارتفعت الكعبة من جديد لتُشع على العالم أجمع بنور التوحيد لرب العالمين، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسًا، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم،فعرض عليهم أحدهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وهذا حل حصيف رضى به القوم.
كان عمر النبي –صلى الله عليه و سلم- حينما وضع الحجر الأسود في مكانه؛ خمسة و ثلاثين عاماً:
ثم ابن خمس وثلاثين حضر ***** بناء بيت الله إذ بني الحجر
بيده الكريمة الزكية ***** صلى عليه خالق البرية([5])
وبعد ما عرضنا في اختصار غير مخل قصة وضع الحجر الأسود؛ نستمد هذه المعاني من جوفها:
1. هناك حكمة إلهية عظيمة في وضع إبراهيم –عليه السلام- قواعد البيت الحرام ثم يأتي خاتم المرسلين محمد –صلى الله عليه وسلم- لُيشارك في البناء ويستلم الحجر الأسود بيديه الشريفتين، ولعل من هذه الحكمة جمع البشرية على الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه.
يقول الله –تعالى-: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }([6]).
2. تسليم الحجر الأسود للنبي –صلى الله عليه وسلم- من دلائل وبشائر النبوة قبل البعثة.
3. إن استشارة قريش للنبي –صلى الله عليه و سلم- وقبولهم لتحكيمه يُعد من أسباب إقامة الحُجة على كفار قريش، فكيف يُكذبون بدعوته وهو الصادق الأمين والذي يحتكمون إليه في الأمور الجِسام.
4. رأي النبي –صلى الله عليه و سلم- السديد لحل هذا النزاع؛ كان من تسديد الله – جلّ في علاه- لرسوله ليهيأ الناس لاصطفاء الله –تعالى- للنبي محمد –صلى الله عليه و سلم- للنبوة وجمع الناس على دين الإسلام.
5. من علامات عدله وحكمه –صلى الله عليه وسلم- أنه قام بحل نزاع عظيم أوشك أن يقضي على أهل مكة.
6. إن الحجر الأسود حجر طاهر مقدس وله مكانة رفيعة، ولم يكن ليحمله إلا رجل ليس كغيره من الرجال، هذا الرجل هو النبي –صلى الله عليه و سلم- الذي اختارته قريش لصدقه وأمانته وحكمته ورجاحة عقله وتميزه بين قومه....خير الأنام صلوات ربي عليه و سلامه.
7. كان محمد –صلى الله عليه و سلم- ذو عقل راجح وحكمة بليغة ظهرت في قصة وضع الحجر الأسود وصاحبته في سيرته العطرة على درب الدعوة إلى الله.
الحمد لله الذي حفظ لنا هذا الدين بإرسال سيد المرسلين داعياً لتوحيد رب العالمين وجعل الطواف بالبيت العتيق نُسُكاً إلى يوم الدين.