أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: إن الحديث عن الجنة شيِّق ومحبَّب إلى النفوس المؤمنة، الجنة تلك الأمنية الغالية التي يسعى إليها الساعون من المؤمنين على مر العصور، الجنة التي كانت في قلوب السلف الصالح شعلة تحركهم لضرب أعلى أمثلة البطولة في الجهاد والتضحية، الجنة تلك الغاية الكريمة التي تَرْنُو إليها العيون الحالمة، وتهفو إليها الأرواح والنفوس المؤمنة في كل زمان ومكان، يستعذبون العذاب من أجل الحصول عليها.
إنها أعظم مرغوب عند المؤمن، وأعظم محبوب بعد محبة الله -جل وعلا- ومحبة رسوله محمد –صلى الله عليه وسلم-، ودخولها والانتهاء إليها أمل يتراءى له في رحلة العمر التي تستغرق حياته كلها. وما أكثر ما كانت حافزًا إلى الخير والحق مهما كان في الطريق من المخاطر والعقبات والأشواك، بل لو كان فيها الموت المحقّق، لقد كان هذا أيام النبي –صلى الله عليه وسلم- كما أخبر أنس -رضي الله عنه- قال: انطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه"، فدنا المشركون، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض"، قال عُمَيْرُ بن الحمام الأنصاري -رضي الله عنه-: يا رسول الله: جنة عرضها السماوات والأرض؟! قال: "نعم"، قال: بخٍ بخٍ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما يحملك على قولك: بخٍ بخٍ؟!"، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: "فإنك من أهلها"، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة! فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل -رضي الله عنه-.
فيا أيها المؤمنون: إن الجنة هي دار المتقين، دار الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، دار جنانها تجري من تحتها الأنهار، دار قصورها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، طينها -وقيل: ملاطها- المسك الأذفر، أي: الجيّد غاية الجودة، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، وخيامها اللؤلؤ المجوف، هي نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وفاكهة وخضرة، فيها الزوجات الخيرات الحسان، فيها العباد المنعمون الذين يأكلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون، بل يخرج ذلك منهم مسكًا عندما يكون منهم جشاء، فيها المنعمون الذين يضحكون ولا يبكون، ويقيمون ولا يظعنون، ويحيون ولا يموتون، فيها الوجوه المسفرة، الضاحكة المستبشرة، فيها الجمال المبين، والحور العين، فيها النعيم الدائم، فيها المزيد حيث يُرفع الحجاب فينظر الفائزون إلى وجه العزيز الوهاب، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
نتناول الحديث عن الجنة وسعتها وأبوابها وأنهارها وخدمها ومطاعمها ومشاربها وعن أهلها وعن سائر ألوان النعيم فيها من القرآن العظيم ومن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
ورد عن عرضها وريحها قول الله -عز وجل-: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَـاوتُ وَلأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133]، وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قتل نفسًا معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام". رواه ابن حبان في صحيحه.
وللجنة ثمانية أبواب، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله من ماله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله: هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعِيَ من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة"، فقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟! قال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم". رواه البخاري واللفظ له ومسلم -رحمهما الله تعالى-.
وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل غيرهم".
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما منكم من أحد يتوضأ فيبالغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء".
هكذا وردت في الحديث مُوَضَّحَةَ الْعَدَدِ ومُفَسِّرَةً للقرآن؛ حيث وردت مجملة في قوله تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَدْخُلُوهَا خَـالِدِينَ) [الزمر: 73].
وهذه الأبواب في غاية الوسع والكبر، وإن ما بين المصراعين مسيرة أربعين سنة، ومع ذلك فسوف تكتظ وتزدحم بأفواج الداخلين إليها. وحِلَقُ أبوابها من ياقوت أحمر، وهي قائمة على صفائح من ذهب. وقد روى الإمام مسلم -رحمه الله- من حديث خالد بن عمير قال: خطبنا عتبة بن غزوان -رضي الله عنه-... إلى أن قال: ولقد ذُكِرَ لنا أن مصراعين من مصاريع الجنة بينهما مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده، إن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهَجَر"، أو: "هجر ومكة". رواه البخاري ومسلم وابن ماجه مختصرًا، إلا أنه قال: أو كما بين "مكة وبُصْرَى". وقال -صلى الله عليه وسلم- وهو يحدِّث عن أهل الجنة: "وينتهون إلى باب الجنة، فإذا حِلَقُهُ من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب".
وعند باب الجنة شجرة عظيمة ينبع من أصلها عينان، خُصِّصَتْ إحداهما لشراب الداخلين، والثانية لتطهيرهم، فإذا شربوا من الأولى جرت في وجوههم نضرة النعيم فلا يبأسون أبدًا، وإذا تَوَضَّؤوا من الثانية لم تشعث أشعارهم أبدًا، قال تعالى: (وَسَقَـاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) [الإنسان: 21].
وفي الحديث الطويل المروي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بأنه سأل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا) [مريم: 85]، ومما جاء فيه: "وإذا شجرة على باب الجنة ينبع من أصلها عينان، فإذا شربوا من إحداهما جرت في وجوههم بنضرة النعيم، وإذا توضؤوا من الأخرى لم تشعث أشعارهم أبدًا". إلى آخر الحديث الذي رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي وغيرهما.
ودخول الجنة يكون زمرًا، ويتفاوتون في حسن هيئتهم وجمال وجوههم لتفاوت أعمالهم في الدنيا في كمياتها وكيفياتها، ويكونون جردًا مردًا بيضًا مكحلين أبناء ثلاثٍ وثلاثين سنة، الطول ستون ذراعًا في عرض سبعة أذرع، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب درّيٍّ في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، أزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا في السماء"، وفي آخر الرواية الثانية: "لكل واحد منهم زوجتان، يُرى مُخُّ سُوقِهِمَا من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيًا". رواه البخاري ومسلم واللفظ لهما والترمذي وابن ماجه -رحمهم الله جميعًا-.
وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يدخل أهل الجنة جردًا مردًا بيضًا جعادًا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين، وهم على خلق آدم ستون ذراعًا في عرض سبعة أذرع". رواه أحمد والطبراني والبيهقي وابن أبي الدنيا.
ويُعْطَى الواحد منهم قوة مائة رجل في الجماع، وأفئدتهم في الرقة والخوف والهيبة مثل أفئدة الطير، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير".
وعن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع"، قيل: يا رسول الله: أَوَيَطِيقُ ذلك؟! قال: "يعطى قوة مائة"، وعن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا أبا القاسم: تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟! قال: "نعم، والذي نفس محمد بيده، إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع". إلى آخر الحديث الذي رواه أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم، وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يأكل أهل الجنة ويشربون، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، ولا يبولون، طعامهم ذلك جُشَاءٌ كريح المسك، يُلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النَّفَسَ". رواه مسلم وأبو داود، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ولا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". رواه مسلم.
وتستقبل الملائكة وفود الرحمن عند دخولهم إلى دار السلام إلى جنات النعيم، وأول المستقبلين هو رضوان خازن الجنان، ثم الملائكة الموكّلون بنعيم الجنة وأهلها، قال تعالى: (وَتَتَلَقَّـاهُمُ الْمَلَـائِكَةُ هَـاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء: 103]، (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـامٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَدْخُلُوهَا خَـالِدِينَ) [الزمر: 73]، وقال تعالى: (وَالمَلَـائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد: 23، 24].
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فأورد بعض الأحاديث ولو أن إيرادها بكاملها أفضل وأكمل؛ لأن الإطالة لا تناسب المقام، وعلى المسلم أن يراجع التفسير والأحاديث ليزداد شوقًا إلى الجنة، ولن يصل إليها إلا بعد بذل السبب بالأعمال الصالحة والتقرب بذلك إلى الله -جل جلاله- محبةً وطاعةً له وامتثالاً لأمره وأمر رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ورغبةً فيما عنده سبحانه وبحمده، ومع بذل المسلم السبب وحبه لله ولرسوله وخشيته وخوفه من الله ومن أليم عقابه ورجائه، وطمعه في ثوابه، فلن يدخل الجنة إلا أن يتغمده اللهُ برحمته، وسوف تكون خطبة أخرى بل خطب إن شاء الله لإكمال ما تبقى من هذا الإيجاز الذي لم يكن في الإمكان الابتعاد عنه، نسأل الله القبول وحسن الخاتمة.
قال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَـالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَـاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَـاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا) [الإنسان: 20-22].
وفي الحديث الطويل الذي ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن آخر رجل يدخل الجنة فقال: "حتى يمر الذي يعطى نوره على ظهر قدميه يحبو على وجهه ويديه ورجليه، تخر يد وتعلق يد، وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص، فإذا خلص وقف عليها فقال: الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعطِ أحدًا إذ نجاني منها بعد إذ رأيتها"، قال: "فينطلق به إلى غدير عند باب الجنة فيغتسل، فيعود إليه ريح أهل الجنة وألوانهم، فيرى ما في الجنة من خلل الباب، فيقول: رب أدخلني الجنة، فيقول له: أتسأل الجنة وقد نجيتك من النار؟! فيقول: رب اجعل بيني وبينها حجابًا لا أسمع حسيسها -أي: بينه وبين النار-، فيدخل الجنة ويرى -أو: يرفع- له منزل أمام ذلك كأن ما هو فيه إليه حلم، فيقول: رب أعطني ذلك المنزل، فيقول له: لعلك إن أعطيتكه تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، وأي منزل أحسن منه؟! فيعطاه فينزله، ويرى أمام ذلك منزلاً كأن ما هو فيه إليه حلم، قال: رب أعطني ذلك المنزل، فيقول الله -تبارك وتعالى- له: فلعلك إن أعطيتكه تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك يا رب، وأي منزل أحسن منه؟! فيعطاه فينزله ثم يسكت، فيقول الله -جلّ ذكره-: ما لك لا تسأل؟! فيقول: رب قد سألتك حتى استحييتك وأقسمت حتى استحييتك، فيقول الله -جلّ ذكره-: (أَلَمْ تَرْضَ أن أعطيك مثل الدنيا منذ خلقتها إلى يوم أفنيتها وعشرة أضعافه؟! فيقول: أتهزأ بي وأنت رب العزة؟! فيضحك الرب -تبارك وتعالى- من قوله، فيقول الرب -جلّ ذكره-: لا ولكني على ذلك قادر، سَلْ، فيقول: ألحقني بالناس، فيقول: اِلحق بالناس، فينطلق يرمل في الجنة، حتى إذا دنا من الناس رُفع له قصر من درة فيخر ساجدًا، فيقال له: ارفع رأسك، ما لك؟! فيقول: رأيت ربي -أو: تراءى لي ربي-، فيقال له: ارفع رأسك، إنما هو منزل من منازلك، ثم يلقى رجلاً فيتهيأ للسجود له، فيقال له: مه؟! فيقول: رأيت أنك ملك من الملائكة، فيقول له: إنما أنا خازن من خزانك وعبد من عبيدك، تحت يديّ ألف قَهْرَمانٍ على ما أنا عليه، فينطلق أمامه حتى يفتح له القصر، وهو درة مجوفة، سقائفها وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها، تستقبله جوهرة خضراء مبطنة بحمراء، فيها سبعون بابًا، كل باب يفضي إلى جوهرة خضراء مبطنة، كل جوهرة تفضي إلى جوهرة على غير لون الأخرى، في كل جوهرة سرر وأزواج ووصائف، أدناهن حوراء عيناء عليها سبعون حلة يُرى مُخُّ ساقها من وراء حللها، كبدها مرآته، وكبده مرآتها، إذا أعرض عنها إعراضة ازدادت في عينه سبعين ضعفًا، فيقال له: أشرف، فيشْرفُ، فيقال له: ملكك مسيرة مائة عام ينفذه بصرك". الحديث بطوله رواه ابن أبي الدنيا والطبراني والحاكم وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، وهو في مسلم بنحوه باختصار عنه.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم"، قالوا: يا رسول الله: تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: "بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين". رواه البخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى-.
ومصداق ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى: (سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَلأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21].
وما أخفاه الله عنّا من نعيم الجنة شيء عظيم لا تدركه عقول البشر ولا تصل إلى كنهه أفهامهم، وإنما هو التقريب إلى أذهانهم عن بعض ما ألفوه واعتادوه ورأوه في الدنيا، وإلا فالمخفي عنهم أعظم كما قال تعالى: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17]، والباء هنا سببية، أي: بسبب أعمالهم الصالحة كما وردت في عدة آيات من القرآن الكريم، ولا منافاة بينها وبين دخول الجنة برحمة الله، وإنما هي الأسباب لدخول الجنة أو العكس من ذلك في أسباب دخول النار، وكما أسلفت في الخطبة السابقة بأن الأسباب للدارين لا بد من بيانهما -إن شاء الله تعالى- في خطب قادمة.
ورد في صحيح البخاري -رحمه الله- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -عز وجل-: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17]". ورواه الإمام مسلم -رحمه الله- عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: شهدت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجلسًا وصف فيه الجنة حتى انتهى، ثم قال -صلى الله عليه وسلم- في آخر حديثه: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"، ثم قرأ هذه الآية: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [السجدة: 16، 17].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...