الحمد لله الغني الكريم؛ جعل جنة الخلد جزاءً للمؤمنين، ورفع فيها درجات المقربين، ورغّب فيها البشر أجمعين، فمن أطاعه فبرحمته يستحقها، ومن كفر به أُبعد عنها، نحمده على ما خلق وهدى، ونشكره على ما أعطى واجتبى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: (لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان:2]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ دعا إلى الإيمان والعمل الصالح؛ لينقذ الناس من النار ويدخلهم الجنة إلا من أبى، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه فقد أبى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإن جزاء ذلك جنة عرضها السموات والأرض: (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:15].
أيها الناس: حين جعل الله تعالى الدنيا دار ابتلاء وعمل، وحفها بالشهوات المشاهدة المحسوسة، وجعل الآخرة دار جزاء وقرار، وهي غيب أخبرنا عنه؛ فإنما ذلك ليظهر من يؤمن بالغيب الموعود، ويقدمه على المشاهد المحسوس، فيخاف وعيد الله تعالى في الآخرة، ويرجو وعده، ويعيش دنياه على وفق ذلك.
إن من آمن بالحياة الباقية، وعمل للآجلة، وجعل غايته الدار الآخرة، ولم يستعجل اللذة العابرة، والشهوة الزائلة، ولا اغتر بالحياة الفانية؛ فإن جزاءه جنة عرضها السماء والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم، ينعمون فيها فلا يبأسون، ويصحون فلا يمرضون، ويخلدون فلا يموتون.
والكلام عن الجنة وما فيها من النعيم تطرب له قلوب المؤمنين، وتشتاق له أسماع الموقنين، فيشمرون عن سواعد الجد والعمل في الباقيات الصالحات؛ لتحصيل أعلى المنازل والدرجات (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر:55].
والقرآن والسنة مليئان بالحديث عن الجنة؛ لزرع اليقين في قلوب المؤمنين بحقيقتها، وتشنيف أسماعهم بذكرها، وتشويقهم لأنواع نعيمها، وحفزهم للمسابقة في أعلى درجاتها.
والحديث عن الجنة ونعيمها لا تفيه حقه الساعة والساعتان، ولا الخطبة والخطبتان؛ إذ هي دار الكريم المنان، وجزاء الرحيم الرحمن، وهبها للمؤمنين برحمته، وجعل الإيمان والعمل الصالح سببًا يوصل إليها، وليس ثمنًا لها: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً) [مريم:63]، (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف:72]، (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) [طه: 76].
ومن نعيم الجنة: ما فيها من أنهار تجري، وعيون تتفجر، وأنهار الدنيا وعيونها مع كثرتها، وعذوبة مائها، وطيب هوائها ليست شيئًا يذكر عند أنهار الجنة وعيونها، ومع ذلك فإن أنهار الدنيا وعيونها قد سلبت الألباب بجمالها، وأشعلت الحروب لحيازتها، وعمرت بالساكنين جنباتها.
وأثمن ما في الأرض ما كان على حافة نهر، أو نبعت فيه عين، وأغلى ما يُكترى من المنتجعات ما كان على شواطئ البحار وحواف الأنهار؛ لأسر منظرها، وجمال مشهدها، وطيب هوائها، وراحة النفس فيها، وما زال الناس قديمًا وحديثًا يستجمون في سواحل البحار والأنهار، وإذا هطل المطر وحل الربيع في الأراضي الصحراوية خرج الناس لرؤية الوديان والشعاب وهي تجري بالماء، وخيموا حول الغدران والقيعان للتمتع بمنظر الخضرة والماء.
بل إن فرعون حين غش الرعية، وادعى الربوبية؛ استدل بجريان الأنهار من تحت قصره على سعة ملكه وقدرته؛ مخادعةً لقومه، ولولا ما في النفوس البشرية من محبة ذلك، والاستدلال به على النعيم لما استدل به فرعون اللئيم، الذي كفر نعمة الله تعالى إذ رزقه، وهتك ستر نفسه حين ستره: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الزخرف:51].
والله تعالى خالق البشر، وهو سبحانه يعلم جبلتهم في تمتعهم برؤية الماء وجريانه؛ ولذا وعدهم على إيمانهم وعملهم الصالح جنات تجري من تحتها الأنهار في نحوٍ من أربعين موضعًا في القرآن الكريم: (وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) [البقرة:25]، (لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) [الزمر:20]، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) [القمر:54]، والأصل أن الأنهار تجري بالماء، وماء الجنة ليس كماء الدنيا عذوبةً وصفاءً ولذةً ونفعًا.
وفي الجنة أنهار أخرى على غير ما عهد البشر وعرفوا، وهي المذكورة في قول الله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) [محمد:15].
فذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة، ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له في الدنيا؛ فآفة الماء أن يأسن من طول مكثه، وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة، وآفة الخمر كراهة مذاقها، وآفة العسل عدم تصفيته، وهذا من آيات الرب تعالى أن تجري أنهار من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها، ويجريها في غير أخدود، وينفي عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة بها.
وهذه الأنهار الأربعة جاء ذكرها في حديث معاوية بن حيدة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعد". رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
فتأملوا –رحمكم الله تعالى- اجتماع هذه الأنهار الأربعة التي هي أفضل أشربة الناس؛ فنهر الماء لشربهم وطهورهم، ونهر اللبن لقوتهم وغذائهم، ونهر الخمر للذتهم وسرورهم، ونهر العسل لشفائهم ومنفعتهم.
وثبت في الصحيح أن أنهار الجنة تتفجر من أعلاها من الفردوس الأعلى من الجنة وتنحدر إلى باقي درجاتها؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة". رواه البخاري.
والكوثر نهر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنعم الله تعالى به عليه: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) [الكوثر:1]، ويصب في حوضه -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة، فيسقي منه النبي -صلى الله عليه وسلم- من لم يبدل ولم يغير من أمته، وقد رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج في الجنة فوصفه قائلاً: "بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟! قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طينه أو طيبه مسك أذفر". وفي رواية: "شاطئاه عليه در مجوف آنيته كعدد النجوم". وفي رواية: "عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده فإذا هو مسك أذفر، قال: ما هذا يا جبريل؟! قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك". رواه البخاري.
نسأل الله تعالى أن يدخلنا الجنة برحمته، وأن يعيننا على عمل أهلها، وأن يجنبنا أسباب حرمانها، إنه سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً) [النساء:57].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده فله الحمد في الآخرة والأولى، ونستغفره لذنوبنا؛ فمن يغفر الذنوب إلا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإن أهل التقوى موعودون بالأمن التام، والنعيم الدائم الذي لا يحول ولا يزول: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الدخان:51-57].
أيها الناس: إن في الجنة عيونًا كثيرةً تتفجر لأهلها، فينعمون بها، ويشربون منها: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الحجر: 45]، وفي آية أخرى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) [المرسلات: 41].
وللسابقين المقربين من عباد الله تعالى جنتان: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن:46]، وفي هاتين الجنتين عينان: (فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ) [الرحمن:50]، ولهم تفجيرها في أي مكان أرادوا من الجنة، في قصورهم ودورهم وخارجها: (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً) [الإنسان:5-6]، أي: يفجرونها حيث كانوا ومتى شاؤوا فتنبع لهم كما أرادوا، ولهم عين السلسبيل؛ سميت بذلك لسلاسة سيلها، وحدة جريها، وعذوبة شرابها: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) [الإنسان:17-18]، وفي آيات أخرى: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) [المطففين:27-28]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "تسنيم أشرف شراب أهل الجنة، وهو صرف للمقربين، ويمزج لأصحاب اليمين".
ولأصحاب اليمين جنتان أقل منهما، وما في الجنة قليل: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) [الرحمن:62]، وفيهما أيضًا عينان: (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ) [الرحمن:66]، أي: فوارتان بالماء لا تنقطعان.
أيها الإخوة: من رأى نعيم الدنيا، وتمنى عيونها وأنهارها، ومتع ناظريه بجريان مائها، وجمال خضرتها، وبهاء نضرتها؛ فليعلم أن الله تعالى قد أعد لعباده في الجنة ما هو أعظم من ذلك وأكمل وأكثر، خالدين فيها أبدًا، يستحقه برحمة الله تعالى وفضله وإحسانه من حقق الإيمان وأتبعه بالعمل الصالح، وجانَبَ المحرمات، وسابق في الخيرات، ونافس في الباقيات الصالحات، وكلما كان العبد أكثر إيمانًا وعملاً كان فوزه في الجنة أكبر، وملكه أعظم: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) [الإنسان:20]، (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:21].
وصلوا وسلموا على نبيكم...