الحمد لله؛ جعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وجعل الآخرة دار الجزاء والقرار، أحمده حمدا يليق بجلاله وعظمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ابتلى عباده من الجن والإنس فجعلهم فريقين: فريقا في الجنة، وفريقا في السعير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صاحب اللواء المعقود، والمقام المحمود، والحوض المورود، من سأل الله تعالى له الوسيلة حلت له شفاعته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ عرفوا قدر الدنيا فما حفلوا بها، وعلموا قدر الجنة فسعوا لها، وعملوا بعمل أهلها، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فإنها نعم البضاعة للدار الآخرة، وهي ثمن الجنة ( لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ) [آل عمران:198].
أيها الناس: إذا ذكرت الجنة تحركت قلوب المؤمنين؛ طمعا فيها، وشوقا إليها، ولهجت ألسنتهم بذكر الله تعالى؛ استعظاما لوصفها، ودعاء ببلوغها، لا يرون نعيما في الدنيا -مهما بلغ- يداني نعيم الجنة، فضلا عن أن يشابهه أو يماثله.
قد علموا أن ثمنها الإيمان والعمل الصالح، فآمنوا، واجتهدوا فيما يقربهم منها، ولم يتكلوا على عملهم؛ لعلمهم أن أعمالهم مهما كانت لا تفي نعمة واحدة من نعم الله تعالى الغزيرة عليهم، يلهجون بسؤال ربهم قائلين (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا و َتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) [آل عمران:193-194].
والحديث عن الجنة حديث طويل لا ينتهي؛ لأنها دار الرحمن، وخزائن الرحمن لا تنفد، وعطاياه لا تنقطع ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) [هود:108].
ما بلغها أهلوها إلا بفضل الله تعالى ورحمته، وإحسانه ومنته، نجاهم ربهم المرة بعد المرة، وتابع عليهم النعمة تلو النعمة؛ فأنعم سبحانه عليهم يوم القبضتين فكانوا في قبضة أصحاب اليمين، وكان غيرهم في قبضة أصحاب الشمال، وأنعم عليهم مرة أخرى لما تخلقوا في أرحام أمهاتهم فكتبوا في السعداء وكتب غيرهم في الأشقياء، ثم لما ماتوا كتبوا في ديوان أهل الجنة " اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى ".
ثم ينعم الله تعالى عليهم يوم القيامة بأخذ كتبهم التي هي صكوك الجنة (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ) [الحاقة:19-24] جعلنا الله ووالدينا والمسلمين من أهلها برحمته وإحسانه، آمين يا رب العالمين.
أيها الإخوة: والجنة درجات ومنازل بعضها فوق بعض، بحسب إيمانهم وأعمالهم الصالحة ( أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) [آل عمران:162-163] ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ) [الأنعام:132] ( أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) [الأنفال:4].
درجات ومنازل بعضها فوق بعض يرى الأدنى منهم منزلة الأعلى فوقه -وما فيهم دني- كما يرفع أحدنا رأسه إلى السماء ليرى قمرها وأنجمها؛ روى الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم "، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: " بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ".
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أهل الجنة ليتراءون الغرف في الجنة كما تتراءون الكوكب في السماء " متفق عليه.
ودرجاتها لا يعلم عدتها إلا الله تعالى للمجاهدين في سبيل الله تعالى منها مئة درجة يختصون بها (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ) [النساء:95-96] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة " رواه الشيخان، وجاء في بعض الأحاديث أن ما بين الدرجتين مسيرة مئة عام.
ولما استشهد حارثة بن سراقة رضي الله عنه في غزوة بدر أتت أمه النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله، ألا تحدثني عن حارثة فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: " يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى " رواه الشيخان.
والفردوس الذي هو أعلى منازل الجنة ودرجاتها جاء ذكره في كتاب الله تعالى، بعد أن ذكر سبحانه جملة من أوصاف المؤمنين، فأعقبها بقوله عز وجل: ( أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [المؤمنون:10-11]، قال قتادة رحمه الله تعالى: " الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها ".
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الفردوس أربع جنان، منها: جنة عدن التي جاء ذكرها في القرآن كثيرا؛ كما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " جنان الفردوس أربع: اثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن وهذه الأنهار تشخب من جنة عدن ثم تصدع بعد ذلك أنهارا " رواه الشيخان وأحمد واللفظ له.
وأعلى منازل الفردوس منزلة لا ينالها إلا رجل واحد من البشر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي منزلة الوسيلة التي من سألها للنبي صلى الله عليه وسلم حلت له شفاعته عليه الصلاة والسلام؛ كما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة " رواه مسلم.
إن أعلى أهل الجنة منزلة سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه، وهو أفضل الرسل؛كما قال الله تعالى: ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) [البقرة:253] قال مجاهد وغيره ( ورفع بعضهم درجات ): " هو محمد صلى الله عليه وسلم ".
وفي حديث الإسراء المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاوز موسى قال موسى عليه السلام: " رب لم أظن أن ترفع علي أحدا "، ثم علا النبي صلى الله عليه وسلم فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاوز سدرة المنتهى فكان عليه الصلاة والسلام أحق الخلق بمنزلة الوسيلة التي هي أعلى المنازل في الجنة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " وسميت درجة النبي صلى الله عليه وسلم الوسيلة؛ لأنها أقرب الدرجات إلى عرش الرحمن، وهي أقرب الدرجات إلى الله تعالى، وأصل اشتقاق لفظ الوسيلة من القرب ... ومعنى الوسيلة من الوصلة؛ ولهذا كانت أفضل الجنة وأشرفها وأعظمها نورا ... قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: أتدرون لم حسنت الجنة؛ لأن عرش رب العالمين سقفها ... ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق عبودية لربه، وأعلمهم به، وأشدهم له خشية، وأعظمهم له محبة - كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله تعالى، وهي أعلى درجة في الجنة وأمر النبي أمته أن يسألوها له؛ لينالوا بهذا الدعاء زلفى من الله تعالى، وزيادة الإيمان، وأيضا فإن الله سبحانه قدرها له بأسباب منها: دعاء أمته له بها بما نالوه على يده من الإيمان والهدى صلوات الله وسلامه عليه " ا.هـ.
ومن أحب النبي صلى الله عليه وسلم، واتبع هديه، ولزم سنته، وأطاع أمره، واجتنب نهيه؛ حشر يوم القيامة معه، ولا يحجب عنه في الجنة، وإن كانت منزلة النبي صلى الله عليه وسلم أعلى من منزلته؛ كما روى الطبراني بإسناد جيد من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، والله إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من أهلي ومالي، وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ ) [النساء:69].
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه وجزيل عطائه وإحسانه أن يبلغنا منازلهم، ويرفعنا إلى درجاتهم، ويحشرنا معهم، ووالدينا ووالديهم؛ إنه سميع مجيب.
والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإن ثواب ذلك الجنة التي أعدها الله تعالى لأهل الإيمان والتقوى ( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) [آل عمران:133].
أيها المسلمون: أعلى الناس منزلة في الجنة الرسل والنبيون، ثم الصديقون، ومن الصديقين في هذه الأمة أبي بكر رضي الله عنه، جاء ذلك في القرآن الكريم ( وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) [الزمر:33] ثم بعد الصديقين الشهداء، ثم الصالحون، ومن رافقهم؛ فنعم الرفيق في الجنة، وإن لم تكن منزلته كمنازلهم ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً *ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً ) [النساء:69-70].
وأما أدنى أهل الجنة منزلة فهل ترون -يا عباد الله- من ملك الدنيا بأجمعها، وحكم الأرض كلها؛ فإن ملك أدنى أهل الجنة منزلة أعظم من ملكه، وصدق الله العظيم العليم إذ يقول: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ) [الإنسان:20]، وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا الجنة، رجل يخرج من النار حبوا فيقول الله تبارك وتعالى له: اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى فيقول الله تبارك وتعالى له: اذهب فادخل الجنة قال: فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك عشرة أمثال الدنيا قال: فيقول: أتسخر بي أو أتضحك بي وأنت الملك " قال ابن مسعود رضي الله عنه لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه قال: فكان يقال ذاك أدنى أهل الجنة منزلة رواه الشيخان.
وروى المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟! فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا، فيقول: رضيت رب فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول: رضيت رب، قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم ترعين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين.. )الآية " رواه مسلم.
وبين أعلى منزلة في الجنة وأدناها منازل متفاوتة، أعظم من تفاوت أهل الدنيا في دنياهم، ( انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ) [الإسراء:21].
ألا فشمروا -عباد الله- عن سواعد الجد في تحصيل أعلى درجاتها، ولا يغلبنكم عليها أقوام هم أقل منكم في درجات الدنيا، بل اغلبوهم عليها بالأعمال الصالحة من صلاة وصيام وذكر وصدقات، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وبر للوالدين وصلة للأرحام،ونفع للناس، وغير ذلك من أعمال البر والإحسان، مع اجتناب المحرمات والموبقات؛ فمن فعل ذلك بلغ المنازل العالية في الجنة بفضل الله تعالى ورحمته.
وإذا كانت الدنيا تنال بالجد والعمل، كما تنال بالحسب والنسب، وتتاح فرصها لبعض الناس دون بعض، وهي على كل حال غير مضمونة؛ فقد يحوزها المرء ولا يتمتع بها لمرض أو علة، وهو زائل عنها لا محالة، إذا كان هذا حال الدنيا وأهلها فإن منازل الجنة متاحة للناس كلهم، وهي الدار المضمونة في بقائها، ولذة من بلغها بها لذة لا تعدلها كل لذات الدنيا، ولا يوصل إليها إلا الإيمان والعمل الصالح، ولا ينفع فيها حسب ولا نسب؛ عدلا من الله تعالى بين عباده، وما نفع امرأتي نوح ولوط أن زوجيهما نبيان، ولا أوصلت أبا طالب الجنة عمومته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا انجى ابن نوح عليه السلام أن أباه كان نبيا. وكل عامل سيجد ما عمل فاستودعوا الخير صحائف أعمالكم تجدوه غدا محضرا (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) [آل عمران:30].
وصلوا وسلموا على نبيكم.