عقيدةٌ تملأ قلب المسلم مضاءً ورضاء، وعلمٌ يورث المؤمن إرادةً وعزمًا وارتقاءً، وإيمانٌ يدفعه للعمل ويحثه على طلب معالي الأمور، وتصورٌ يسل من نفسه الخوف مع عوائق الطريق وبنيانه مسائل من عرفها وأدرك حُكْمها وحِكَمَها سهلت أمامه مصاعب الحياة وتخففت نفسه من أثقال المعاناة فاستلذ الصبر واستحلى المر، وانتظر من الله الأمل والفرج وعمل لتحقيق ذلك ولم يتواكل..
الحمد لله الذي قدر الأمور وأمضاها وعلم أحوال الخلائق قبل خلقهم وقضاها وجازى كل نفس بعد ذلك على سخطها بما قدر أو رضاها.. كل شيء خلقه -سبحانه- بقدرٍ وقدر، ولا يقع شيءٌ في كونه إلا بعلمٍ منه ونظر، علم الأجل وقدر العمل وجعل الأمور دول، كل ذلك منه في الأزل -سبحانه- كم أحاط علمه وكم وسع حلمه وكم مضى حكمه!
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له.. له لطائف الحكمة وخفيات القدر، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله وخيرته من كل البشر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته الميامين الغرر والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى -أيها المسلمون-، واعلموا أنكم إليه راجعون وعلى أعمالكم مجزيون، ومن عمل كساه الله رداءه.. إن خيرًا فخيرا وإن شراً فشرا: (... وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) [البقرة:223].
أيها المسلمون: عقيدةٌ تملأ قلب المسلم مضاءً ورضاء، وعلمٌ يورث المؤمن إرادةً وعزمًا وارتقاءً، وإيمانٌ يدفعه للعمل ويحثه على طلب معالي الأمور، وتصورٌ يسل من نفسه الخوف مع عوائق الطريق وبنيانه مسائل من عرفها وأدرك حُكْمها وحِكَمَها سهلت أمامه مصاعب الحياة وتخففت نفسه من أثقال المعاناة فاستلذ الصبر واستحلى المر، وانتظر من الله الأمل والفرج وعمل لتحقيق ذلك ولم يتواكل.. إنها -أيها المسلمون- عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر.
عباد الله.. الإيمان بالله العظيم قضية كبرى ومسألة عظمى، وهي من أولى المسائل التي يجب على المسلم أن يستحضرها وينطوي عليها قلبه دومًا، والإيمان بنيانٌ له أركان.. التصديق بها والعمل بمقتضاها دليلٌ عليه وعنوانه، وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن جبريل -عليه السلام- سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان فقال: النبي -صلى الله عليه وسلم-: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت ".
أيها المسلمون: الإيمان بالقضاء والقدر ركنٌ من أركان الإيمان وقاعدة أساس الإحسان كما ورد في أعظم حديث في الإسلام: القدر هو تقدير الله للكائنات حسب ما سبق به علم الله واقتضته حكمته، وهو ما سبق به العمل وجرى به القلم مما هو كائنٌ إلى الأبد، والإيمان به هو أن تؤمن أن الله -جل جلاله- قدر مقادير الخلائق وما يكون من الأشياء والحوادث قبل أن تكون وعلم -سبحانه- أنها ستقع في أوقاتٍ معلومةٍ على صفاتٍ مخصوصة؛ فعلمها -سبحانه- وكتبها بكل تفاصيلها ودقائقها وشاءها وخلقها؛ فهي كائنةٌ لا محالة على التفصيل والدقة كما شاء -سبحانه- وما لم يشأه فإنه لا يكون، وهو قادر على كل شيء.. فإن شاءه وقع وإن لم يشأه لم يقع مع قدرته على إيقاعه.
أيها المؤمنون: القدر غيبٌ مبناه على التسليم، قال الله -عز وجل-: (... وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا) [الأحزاب:38]، وقال سبحانه (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر:49-50]، وقال جل في علاه: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) [الحجر:21]..
وفي صحيح مسلم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل "، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (كل شيءٍ بقدرٍ حتى وضعك يدك على خدك).
أيها المسلمون: مذهب أهل السنة والجماعة هو ما دل عليه الكتاب والسنة وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، وهو أن الله -تعالى- خالق كل شيءٍ وربه ومليكه، وأنه -سبحانه- ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون في الوجود شيءٌ إلا بعلمه ومشيئته وقدرته.. لا يمتنع عليه شيء، بل هو قادرٌ على كل شيءٍ ويعلم -سبحانه- ما كان وما يكون، وقد قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم.. قدر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم، وكتب ذلك وكتب ما يصيرون إليه من سعادةٍ وشقاوة، والعباد مأمورون بما أمرهم الله به منهيون عما نهاهم عنه، ونؤمن بوعد الله ووعيده، ولا حجة لأحدٍ على الله في واجب تركه أو محرم فعله، بل لله الحجة البالغة: (... وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان:2] (إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) [المرسلات:22-23]
عباد الله: الإيمان بالقضاء والقدر يقوم على أربعة أركان مرتبطة ببعضها لا يقوم الإيمان إلا بتحقيقها، وهي: العلم والكتابة والمشيئة والخلق..
فالعلم هو: الإيمان بأن الله -تعالى- عالمٌ بكل شيءٍ جملةً وتفصيلا أزلًا وأبداً ف؛ يعلم الموجود والمعدوم والممكن والمستحيل، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) [الحشر:22] (... يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ... ) [البقرة:255]، وقال -جل في علاه- عن ذاته العلية: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام:59].
الثاني مما يشتمل عليه الإيمان بالقدر: الكتابة؛ وهي الإيمان بأن الله كتب ما سبق به علمه من مقادير الخلائق إلى يوم القيامة.. فكل ما كان وما هو كائنٌ مكتوبٌ في اللوح المحفوظ في أم الكتاب، قال -سبحانه-: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحج:70]، وقال -عز وجل-: (... وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) [يس:12]..
عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة " رواه مسلم.
الأمر الثالث -أيها المسلمون- مما يشتمل عليه الإيمان بالقدر: المشيئة؛ وهي الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة.. فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حركة ولا سكون ولا هداية ولا إضلال إلا بمشيته -جل في علاه- ولا يمكن أن يقع في الكون حادثٌ صغيرٌ ولا كبيرٌ إلا بمشيئته -سبحانه-: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ... ) [القصص:68]، (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:29]..
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء " رواه مسلم، (...وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [البقرة:253].
الركن الرابع -أيها المسلمون-: الخلق؛ وذلك يقتضي الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقةٌ لله بذواتها وصفاتها وحركاتها، وبأن كل من سوى الله فهو مخلوق موجد من العدم.. قال الله -عز وجل-: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ... ) [الزمر:62]، وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله يصنع كل صانع وصنعته " أخرجه البخاري في (خلق أفعال العباد).
أيها المسلمون: في الإيمان بالقضاء والقدر ثمراتٌ تعود على المؤمن بالنفع العاجل والآجل والعبوديات والنفحات والمنازل التي تبلغه رضا الله وجنته..
فأول ذلك: أن المؤمن يؤدي عبادة لله -تعالى- بإيمانه بالقضاء والقدر وبالإذعان لله والتسليم له، كما أنه باعثٌ على الإخلاص.. فإذا علم العبد أن كل شيءٍ بقدر الله وأن الملك ملكه والخلق خلقه وكل شيءٍ مقاليده بيده وأن الأمور لا تُنال إلا بتقدير الله وأن الناس لا يملكون شيئًا.. لم يعد يبالي بذم الناس ومدحهم في الحق ولم يسخط الله برضا الناس ولم يتزين لهم، بل يزداد إخلاصًا وقصدًا لله لا تأخذه في الله لومة لائمة، ويعلم أن كل شيءٍ واقعٌ تحت قهر الله وسلطانه محكومٌ بقدره، وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك.. رُفعت الأقلام وجفت الصحف ".. رواه الترمذي بإسناد صحيح.
وهذا يزيد إيمان المؤمن، قال الله -عز وجل-: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن:11].. وفي قراءة: {يهدأ قلبه}..
قال علقمة: " هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من قِبل الله فيسلم ويرضى، ومن رضي عن الله رضي الله عنه، والرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين وقرة عيون المشتاقين.. "
إنه لا خروج للعبد عما قدر له، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو راضٍ محمودٌ ومشكورٌ ملطوفٌ به.. وإلا جرى عليه القدر وهو مذمومٌ مسخوط..
وهذا يفسر لك سكون القلب وطمأنينة النفس وراحة البال وبرد اليقين؛ فترى المؤمن يستقبل المصائب والآلام بنفسٍ رضيةٍ ونفسٍ مطمئنةٍ وسكينةٍ عجيبة، إن الإيمان بالقدر يفلح في تهدئة الأعصاب أكثر مما تفلح كل المسكنات والعقاقير الطبية.
والسكينة من مواهب الرحمن لا من كسب الإنسان، وهي الطمأنينة والوقار والسكون والأمن الذي ينزله الله في قلب المؤمن خاصةً في مواقف القلق والاضطراب، أما الطمأنينة فهي سكينةٌ معها أنس؛ فياالله! كم في الإيمان بالقضاء والقدر من روحٍ وسكينةٍ وراحةٍ وطمأنينة!.
أيها المسلمون: ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر أن يمتلئ القلب شجاعةً وإقدامًا؛ فلن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها، ولن يصيب الإنسان إلا ما كُتب له.. فعلام الخوف والقلق؟ " واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك "
وكذلك القناعة وعزة النفس؛ فالرزق لا يجلبه حرص حريص ولا يمنعه حسد حاسد، وهذا يؤدي إلى القناعة والإجمال في الطلب وإلى التحرر من رق الخلق ومنتهم والحاجة إليهم والاكتفاء من الدنيا بالبلاغ؛ فتعلو همة المؤمن وتزكو نفسه ولا يحسد أحدًا على عطاء أعطاه الله إياه لعلمهم أن الله يعطي ويمنع ويخفض ويرفع، ومن حسد غيره فإنه معترض على قضاء الله وقسمه: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ... ) [النساء:54].
الإيمان بالقضاء والقدر يدعو للتفاؤل والإيمان بالنصر القادم والفرج العاجل،: " واعلم أن النصر مع الصبر.. وأن مع العسر يسرا "؛ فلا يأس ولا قنوط: (... وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) [يوسف:87].
الإيمان بالقدر يجعل المؤمن صابرًا قوي الاحتمال، وكل أحد لا بد له من الصبر.. فهو من جميل الخلال ومحمود الخصال ومن سمات الرجال، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم.. قال عمر -رضي الله عنه-: (وجدنا خير عيشنا بالصبر)؛ لذا تجد المؤمن بالقدر صبورًا متجلدًا يتحمل المشاق ويتجاوز المصاعب والآلام.. بخلاف ضعيف الإيمان الذي لا يقو ى على الاحتمال ولا يصبر على ما يعترضه فيجزع لأتفه الأسباب، بل ربما أدى به الجزع إلى الوساوس والأمراض النفسية والهرب إلى المخدرات والانتحار.
ولو آمن بالقضاء والقدر لرأيت قوة الرجاء وإحسان الظن بالله.. فإن الله تعالى لا يقضي قضاءً إلا وفيه تمام العدل وكمال الرحمة والحكمة؛ فلا يتهم ربه فيما يجري عليه من أقضيته وأقداره؛ وذلك يوجب له استواء الحالات عنده ورضاه بما يختاره له سيده وينتظر الفرج ويترقبه، بل يخفف ذلك من حمل المشقة.. لا سيما مع قوة الرجاء فإن في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه وراحته ما هو خفي الألطاف، بل هو فرجٌ معجل..
والتأمل في قدر الله يكشف للإنسان حكمة الله فيما يقدره من خيرٍ أو شر: (... وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة:216]؛ فيفوض العبد أمره إلى من يعلم عواقب الأمور.
أيها المسلمون: ومن آثار الإيمان بالقضاء والقدر: التوكل على الله، وهو نصف الدين ولب العبادة والتوكل.. هو توجه القلب إلى الله واستمداد المعونة منه والاعتماد عليه وحده بعد بذل السبب..
التوكل يعني الثقة بالله والطمأنينة به والسكون إليه، وهو التعلق بالله في كل حال: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ... ) [الفرقان:58]، (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ...) [الطلاق:3].
التوكل لا يعني ترك الأسباب، بل يعني عدم تعلق القلب بها.. فإذا عزمت فتوكل على الله، والشريعة أمرت العامل بأن يكون قلبه منطويًا على انفراد التوكل، فإذا استضاء به أمده الله بالقوة والعزيمة والفهم والبصيرة والصبر والتوفيق وصرف عنه الآفات وأراه من حسن العواقب ما لم يكن ليصل إليه الإنسان لولا توفيق الله، وهذا يريح الإنسان من الأفكار والوساوس ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة وينزل في أخرى، وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل، ومن التفت إلى غير الله نقص توكله.. قال ابن القيم -رحمه الله-: " الثقة بالله تنافي الركود والعجز؛ فإن الواثق بالله يفعل ما أمره الله ويثق بالله في طلوع ثمرته وبركتها كغارس الشجرة وباذر الأرض، والثقة إنما تصح بعد بذل المجهود ".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.. أقول قولي هذا وأستغفر الله -تعالى- لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله.. الحمد لله الذي استأثر بالخلق والتدبير.. له ملك السموات وهو اللطيف الخبير، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله البشير النذير والسراج المنير.. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
أيها المسلمون: يقول الحق -تبارك وتعالى- عن ذاته العلية: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) [الأنعام:13]، ويقول -سبحانه-: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام:18]، ومن هنا كان كمال توحيد المؤمنين فأخبتت قلوبهم لأحكام القضاء وهان عليهم الصبر على البلاء والشكر على السراء، وفوضوا أمرهم إلى الله وسألوه المغفرة والرحمة.
عباد الله: الإيمان بالقدر لا ينافي أن يكون للإنسان مشيئةٌ يحاسب عليها في أفعاله الاختيارية؛ فكل إنسانٍ له قدرةٌ وإرادةٌ ومشيئةٌ واختيار.. لا يجبره أحدٌ على فعل خيرٍ أو فعل شر، قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس:7-8]، وقال سبحانه (لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:28-29].
وأفعال العباد هي من الله خلقًا وإيجادًا وتقديراً وهي من العباد فعلًا وكسبًا واختياراً؛ فالله هو الخالق.. فأفعالهم وهم الفاعلون لها.. قال -سبحانه-: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:96]..
قال ابن القيم -رحمه الله-: " هاهنا أمران: قضاء ومقضي؛ فالقضاء هو فعل الرب -سبحانه- والمقضي هو المفعول المنفصل عنه، فالقضاء كله خيرٌ وعدلٌ وحكمة، والمقضي منه ما هو مرضيٌ ومنه ما هو غير مرضي، مثال ذلك قتل النفس، فهما اعتباران؛ فمن حيث إنه قدر الله وعلمه وقضاؤه وكتبه، وشاءه وجعله أجلًا للمقتول ونهايةً لعمره فهو كذلك، ومن حيث إنه صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله فهو مسخوطٌ غير مرضي ولم يجبره أحد على هذه المعصية، ولا وجه للاحتجاج بالقدر هنا.. فإنه لا يدري أصلًا ما الذي كتبه الله وقدره؛ فهو محاسبٌ على فعله لا على ما قدره الله مما لا يعلم العبد عنه ".
عن جابر رضي الله عنه قال: " جاء سراقة بن مالك بن جعشم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يارسول الله بين لنا دينناكأننا خلقنا الآن. فيم العمل اليوم؟ أفيم جفت به الأقلام وجرت المقادير أم فيما نستقبل؟ قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟ فقال: اعملوا؛ فكلٌّ ميسرٌ لما خلق له "، وفي رواية: " كل عاملٍ ميسرٌ لعمله " رواه مسلم.
هذا، وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداه محمد بن عبد الله رسول الله ومصطفاه، اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، اللهم انصر من نصر الدين واخذل الطغاة والملاحدة والمفسدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك.
اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم واصرف عنهم شرارهم، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى وخذ به للبر والتقوى، اللهم أصلح بطانته واصرف عنه بطانة السوء ياحي ياقيوم، اللهم وفقه ونائبه وإخوانهم وأعوانهم لما فيه صلاح العباد والبلاد، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم انصر المسلمين المستضعفين في كل مكان يارب العالمين.
اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ونفس كرب المكروبين وفك أسر المأسورين واقض الدين عن المدينين واشف برحمتك مرضانا ومرضى المسلمين.
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا ويسر أمورنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم ولجميع المسلمين، ربنا ظلنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
نستغفر الله. نستغفر الله، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت.. أنت الغني ونحن الفقراء؛ أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبقًا مجللا عامًّا نافعًا غير ضار.. تحي به البلاد وتسقي به العباد وتجعله بلاغًا للحاضر والباد، اللهم سقيا رحمة. اللهم سقيا رحمة. اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدراراً
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، والحمد لله رب العالمين.