النفخ في الصور والصعق
قد تكرر ذكر النفخ في الصور في القرآن العظيم وذكر ما يحدث عند ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والقرآن قد أخبر بثلاث نفخات:
نفخة الفزع ذكرها في سورة النمل في قوله: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}
ونفخة الصعق والقيام ذكرهما في سورة الزمر في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} وأما الاستثناء؛ فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين؛ فإن الجنة ليس فيها موت، ومتناول لغيرهم، ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله؛ فإن الله أطلق في كتابه، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى آخذا بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي أم كان مما استثناه الله؟) . وهذه الصعقة قيل: إنها رابعة، وقيل: إنها من المذكورات في القرآن"انتهى.
وقال السفاريني: "واعلم أن النفخ في الصور ثلاث نفخات:
نفخة الفزع: وهي التي يتغير بها هذا العالم ويفسد نظامه، وهي المشار إليها في قوله تعالى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} ؛ أي: من رجوع ومرد.
وقوله: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} : فسر الزمخشري في "كشافه"المستثنى في هذه الآية بمن ثبت الله قلبه من الملائكة، وهم: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت. وقيل غير ذلك. وإنما يحصل الفزع بشدة ما يقع من هول تلك النفخة...".
إلى أن قال: "النفخة الثانية: نفخة الصعق، وفيها هلاك كل شيء؛ قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} ، وقد فسر الصعق بالموت...".
إلى أن قال: "والصور قرن من نور، يجعل فيه أرواح الخلائق، وقال مجاهد: كالبوق. ذكره البخاري. وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ما الصور؟ قال قرن ينفخ فيه) . قال الترمذي: حديث حسن...".
ثم قال: "النفخة الثالثة: نفخة البعث والنشور، وقد جاء في الكتاب العزيز آيات تدل عليها وأخبار تشير إليها؛ كقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} وقوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} ، وقوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} ، وقوله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} الآية؛ قال المفسرون: المنادي هو إسرافيل عليه السلام، ينفخ في الصور وينادي: أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة! إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وقيل: ينفخ إسرافيل وينادي جبريل. والمكان القريب: صخرة بيت المقدس. قال جماعة من المفسرين: وبين النفختين أربعون عاما. قال بعض العلماء: اتفقت الروايات على ذلك.
وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "ما بين النفختين أربعون". قالوا: يا أبا هريرة! أربعون يوما؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون عاما؟ قال: أبيت..."الحديث.
وقول أبي هريرة رضي الله عنه: "أبيت": فيه ثلاث تأويلات: أولها: امتنعت من بيان ذلك لكم. وقيل: أبيت أسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وقيل: نسيت. وقيل: إن سر ذلك لا يعلمه إلا الله لأنه من أسرار الربوبية.
وفي حديث أبي هريرة الطويل الذي رواه ابن جرير والطبراني وأبو يعلى في "مسنده"والبيهقي في "البعث"وأبي موسى المديني وغيرهم؛ قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض، خلق الصور، فأعطاه إسرافيل؛ فهو واضعه على فيه، شاخصا ببصره إلى العرش، ينتظر متى يؤمر قلت يا رسول الله وما الصور؟ قال القرن قلت أي شيء هو؟ قال عظيم، إن عظم دارة فيه كعرض السماء والأرض، فينفخ فيه ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين، فيأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول انفخ الفزع! فينفخ، فيفزع أهل السماء والأرض إلا من شاء الله، فيأمره فيمدها ويطيلها ولا يفتر، وهي التي يقول الله تعالى {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} فيسير الله الجبال، فتمر مر السحاب، فتكون سرابا، وترتج الأرض بأهلها رجا، فتكون كالسفينة الموقرة في البحر تضربها الأمواج، وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح، وهي التي يقول الله {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَة تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} فتميل الأرض بالناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى تأتي الأقطار، فتتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع، ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا، وهو الذي يقول الله تعالى {يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} فبينما هم على ذلك؛ إذ تصدعت الأرض، فانصدعت من قطر إلى قطر، فرأوا أمرا عظيما، ثم نظروا إلى السماء؛ فإذا هي كالمهل، ثم انشقت فانتثرت نجومها وانخسفت شمسها وقمرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموات يومئذ لا يعلمون بشيء من ذلك قلت يا رسول الله! من استثنى الله تعالى في قوله {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} ؛ قال أولئك الشهداء وإنما يتصل الفزع إلى الأحياء وهم أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمنهم منه، وهو عذاب يبعثه الله على شرار خلقه، يقول الله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد} ، فيمكثون في ذلك ما شاء الله) الحديث".
هذا؛ ونسأل الله عز وجل أن يهدينا الصراط المستقيم، ويجعلنا من الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.