مَنْ أمن العقوبة أساء الأدب، هذه المقولة تنطبق انطباقًا فعليًّا على قضية الإيمان باليوم الآخر في المجتمع، فالذي يعيش هملاً بلا جزاء على الإحسان ولا عقاب على الإساءة فإنه يجد نفسه تجنح حتمًا للناحية السلبية من السلوك، فثمة علاقة وطيدة بين اليقين بالجزاء والعقاب وبين إحسان العمل، أما إن كان لديه وازع ديني يحركه، وضمير متيقظ يلح عليه كلما جنح فيعيده إلى جادة الصواب مرة أخرى، فسوف يكون ذلك ضمانة للأفراد والمجتمع من الانجرار في منحدرات الهاوية والرذيلة.
إن ثمرة من ثمرات الإيمان باليوم الآخر تتمثل في كبح جماح المجتمعات نحو الشطط الفكري والقولي والسلوكي، والالتزام بأصول ثابتة يسيرون عليها من النزاهة والشرف والأمانة والضمير، وهذا الإيمان لا يدانيه قيد بشري آخر؛ من حيث الجزاء والعقاب الدنيوي، فلربما زهد الفرد في جزاء الدنيا وصبر على عقابها، في الوقت الذي لا يمكنه بحال من الأحوال إذا أعمل عقله أن يصبر على عقاب الآخرة ولا عن جزائها، فالمعادلة في حد ذاتها ضابطة لسلوك الأفراد ضبطًا منطقيًا من جانب، ومؤثرًا من جانب آخر.
وإذا كان الكتاب والسنة قد اهتما غاية الاهتمام بتفاصيل ذلك اليوم المشهود وبأحوال هذا النبأ العظيم؛ فإنه من الحمق والجهل أن لا نهتم بما اهتم به الوحيان.
إن أعظم قضية يجب أن ينشغل بها كل واحد منا هي: قضية وجوده وحياته والغاية منها، وقضية مستقبله ومصيره وشقائه وسعادته، فلا يجوز أن يتقدم ذلك شيء مهما كان، فكل أمر دونه هين، وكل خطب سواه حقير. وهل هناك أعظم وأفدح من أن يخسر الإنسان حياته وأهله، ويخسر مع ذلك سعادته وسعادتهم، فماذا يبقى بعد ذلك؟! (قُلْ إنَّ الخَاسِرِينَ الَذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ) [الزمر: 15].
إن في اليقين باليوم الآخر وأنبائه العظيمة لآثارًا واضحة وثمارًا طيبة، لابد أن تظهر في قلب العبد وعلى لسانه وجوارحه، وفي حياته كلها، ولكن هذا اليقين وحده لا يكفي حتى ينضم إليه الصبر ومجاهدة الشهوات والعوائق؛ لأن الواحد منا -مع يقينه باليوم الآخر وأهواله- يرى في حياته أن ثمرات هذا اليقين ضعيفة، فلابد إذن من سبب لهذا الأمر، ويجلي هذه المسألة الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- فيقول: "فإن قلت: كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار ويتخلف العمل؟! وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غدًا إلى بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشد عقوبة، أو يكرمه أتم كرامة، ويبيت ساهيًا غافلاً! ولا يتذكر موقفه بين يدي الملك، ولا يستعد له، ولا يأخذ له أهبته؟!
كما يتولد أيضًا من هذا الشعور، الراحة النفسية والسعادة القلبية وقوة الاحتمال والصبر على الشدائد والابتلاءات، ذلك للرجاء فيما عند الله -عز وجل- من الأجر والثواب، وأنه مهما جاء من شدائد الدنيا فهي منقطعة ولها أجل، فهو ينتظر الفرج ويرجو الثواب الذي لا ينقطع يوم الرجوع إلى الله -عز وجل-، قال تعالى: (إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كََمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ) [النساء: 104]، وما أن يفقد القلب هذه المعاني حتى يخيم عليه الهم والتعاسة، ومن هنا ينشأ القلق والانزعاج والضيق والحزن، أما ذاك الذي عرف الدنيا على حقيقتها، وامتلأ قلبه بهمّ الآخرة وأنبائها، فإن نفسه لا تذهب على الدنيا حسرات، ولا تنقطع نفسه لهثًا في طلبها، ولا يأكل قلبه الغل والحسد والتنافس فيها، ولا يقل صبره ولا يجزع قلبه عند المحن والشدائد، ومهما حرم في هذه الدنيا الفانية فهو يعلم أن لله -عز وجل- في ذلك الحكمة البالغة، وهو يرجو الأجر يوم القيامة، قال تعالى: (وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفا وَإن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 33- 35].
وفي مختاراتنا لهذا الأسبوع انتقينا لخطبائنا الكرام مجموعة من الخطب حول الإيمان باليوم الآخر، مؤكدين على أهمية هذا الموضوع، ومنوهين خلال ذلك إلى الآثار المرجوة من تحقق هذا النوع من الإيمان بين الأفراد والمجتمعات، والثمرات المرجوة منه، واهتمام القرآن به .. سائلين الله تعالى أن يرزقنا حلاوة الإيمان، والطمأنينة به، وأن يصلح أحوال المسلمين.. إنه ولي ذلك والقادر عليه.