بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي اختص شهر رمضان بعلو القدر وعظيم الشأن، أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وفرض على عباده في كتابه صيامه، وسن لهم على لسان رسوله r قيامه، فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، أحمده سبحانه على نعمه الجامعة، وبركاته الساطعة، وحججه القاطعة، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أفضل من صام وقام، وأتى بشعائر الإسلام، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، وسار على نهجه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:
فيا عباد الله إنكم في شهر كريم رفع الله قدره، وطيب ذكره، وجعله أفضل من سائر الشهور، واختصه بليلة من لياليه جعلها خيرا من ألف شهر من سائر الليالي والأيام، تلكم هي ليلة القدر التي أنزل الله تعالى فيها سورة بأسرها، يقول سبحانه وتعالى فيها: بسم الله الرحمن الرحيم }إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ{ (القدر/ 1 ـ 5) ونوّه الله سبحانه وتعالى بها في سورة الدخان حيث قال: }إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ{ (الدخان/ 3 ـ 5) وقد جاء في أحاديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام التنويه بقدر شهر رمضان، والتنويه بليلة القدر، فالرسول r يقول: «إذا كان رمضان فتحت أبواب الجنة، وأغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين»، وفي رواية عنه صلوات الله وسلامه عليه: «أظلكم شهر رمضان، شهر كريم، فرض الله عليكم صيامه، وسننت لكم قيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشياطين».
عباد الله إن هذا الشهر الكريم فرصة للتوبة والأوبة إلى الله سبحانه، والاقتراب منه سبحانه بالطاعات وصنوف القربات التي حض الله تعالى عليها عباده، ودعا إليها الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، ففي هذا الشهر الكريم تضاعف الأجور لعباد الله الصالحين: فقد جاء: أن من أدى فيه نافلة كان كمن أدى في غيره فريضة، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى في غيره سبعين فريضة، وقد فرض الله سبحانه وتعالى صيام هذا الشهر الكريم؛ لأجل تربية الضمائر، وتقوية الملكات؛ ولأجل تهذيب النفس؛ ولأجل ترقيق الشعور؛ ولأجل تنوير الأرواح، فالصيام من العبادات التي تخلق في النفس روح التقوى، يقول الله سبحانه وتعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{ (البقرة/183) فالصيام سبب لاستعلاء النفس على نزعاتها ونزغاتها، وسبب لتقوية الإرادة في الإنسان، ولذلك فرض الله سبحانه وتعالى على عباده الجهاد في نفس العام، بل في نفس الشهر الذي فرض الله عز وجل فيه الصيام، وفي هذا ما لا يخفى من تقوية الإرادة لفريضة الصوم إذا أداها الإنسان كما أمر الله عز وجل إيمانا واحتسابا وتقربا إليه عز شأنه، لا يبغي بذلك محمدة، ولا يبغي بذلك ذكرا بين الناس، وإنما يريد وجه الله تبارك وتعالى وحده، والصيام إنما كان سببا للتقوى؛ لأنه يستلزم تقوى الله، فهو ليس مجرد الكف عن الأكل والشرب ومباشرة النساء، ولكنه مع ذلك أيضا كف النفس، وقيد الجوارح، وكف اللسان عن كل هجر من المقال، وعن كل قبيح من الأفعال؛ كما يدل على ذلك قول الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام: «لا صوم إلا بالكف عن محارم الله»، وقوله r: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»، وجاء في الحديث الصحيح عن الرسول r: «الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن أحد سابه أو قاتله فليقل إني صائم»، فما أعظم هذا التأديب الذي يؤدب به الرسول r من خلال العبادة أمته ! إذ ليس المراد من الصائم أن يكف إيذاءه عن الغير فحسب، وإنما هو مأمور بجانب ذلك باحتمال الإيذاء من الغير، وعدم مقابلة الإساءة بإساءة مثلها.
وجاء التنويه بقدر الصيام في الحديث القدسي الذي يحكيه الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام عن رب العالمين، فقد قال الله تعالى: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به الجنة»، ذلك لأن الصيام لم يتقرب به إلى غير الله سبحانه، ولا يلابسه الرياء؛ لأن الصيام عبادة فيها الكبت، وليست عبادة فعلية حتى تظهر للناس.
فاتقوا الله يا عباد الله، وأدوا هذه الشعيرة المقدسة كما أمركم الله سبحانه وتعالى بها }وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{ (آل عمران/ 133ـ 135) وتقربوا إلى الله عز وجل في هذا الشهر الكريم بأنواع الطاعات وصنوف القربات، صلوا فيه أرحامكم، وواسوا فقراءكم، واقتدوا بنبيكم r الذي يقول عنه حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله r أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقى جبريل يعرض عليه القرآن. وداوموا على تلاوة القرآن الكريم في هذا الشهر العظيم، وتدبروا أوامره ونواهيه، وقفوا عند حدوده، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروا الله يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البرّ الكريم.
* * *
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأشكره، وأتوب إليه من جميع الذنوب وأستغفره، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين، أما بعد:
فيا عباد الله إن في هذه العبادات الموسمية التي شرعها الله عز وجل تذكيرا للإنسان بانقضاء زمنه ومرور حياته، فإن الأنفاس واللحظات إنما هي على حساب الأعمار، وكل إنسان كلما مرت عليه لحظة من عمره كان أقرب إلى لقاء الله عز وجل، فتزودوا يا عباد الله من حياتكم هذه تقوى الله، وتقربوا إليه بصنوف الطاعات، وتأملوا كتاب الله الذي أنزل في هذا الشهر الكريم لينقذ الإنسانية من الشك والظلمات والحيرة والشقاق وما كانت تعانيه، أخرج هذه الإنسانية من جميع ذلك إلى النور والبصيرة والوفاق والوحدة.
فاتقوا الله يا عباد الله، واعملوا بكتاب ربكم، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واتبعوا أوامره، وقفوا عند حدوده، فإن الله سبحانه وتعالى يقول فيه: }شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ{ (البقرة/185) ويقول تعالى فيه: }كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ{ (ص/29) ويقول جل جلاله فيه }إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا{ (الإسراء/ 9 ـ 10) ويقول: }وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{ (الشورى/52).
فاتقوا الله يا عباد الله، وارجعوا إلى كتاب الله في كل ما أشكل عليكم؛ فإن الرسول r يقول: «ستكون من بعدي فتن كقطع الليل المظلم»، قيل له: وما المخلص منها يا رسول الله؟ قال: «كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، وهو الذي لم تنتهِ الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا، من قال قوله صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن اعتصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم.