شواطيء البكائين
الخطبة الأولى :
الحمد لله تبارك وتعالى ، يقضي بما شاء ، ويفعل ما يريد ، وربك يخلق ما يشاء ويختار ، أحمده سبحانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، يحاسب على الفتيل والقطمير ، وكفى بالله حسيباً ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، خير من سعى وطاف ، وأفضل من بكى لله وخاف ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل ، وكثرة حمده على آلائه إليكم ، ونعمائه عليكم ، وبلائه لديكم فكم خصكم بنعمة ، وأزال عنكم نقمة ، وتدارككم برحمة ، أعورتم له فستركم ، وتعرضتم لأخذه فأمهلكم ، فإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم .
أيها الناس : قال الله عز وجل في محكم التنزيل ( وفي الأرض ءايتٌ للموقنين (20 ) وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) " سورة الذاريات ، الآيتان : 20 ، 21 " وقال تعالى : ( سنريهم ءاياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) " سورة فصلت ، الآية : 53 " .
والآية جد آية ، والعظمة جد عظمة ، ما أودعه الله عز وجل في بني البشر من النعمتين العظيمتين ، ألا وهما نعمة الضحك والبكاء ، ضحك وبكاء .. أودعهما الله النفس الإنسانية ، والأمة البشرية ( وأن إلى ربك المنتهى (42) وأنه هو أضحك وأبكى (43) ) " سورة النجم ، الآيتان : 42 ، 43 " ضحكٌ .. أودعه الله النفس البشرية ، لتعبر به عن فرحها المرغوب ، ورضاها به ، وأنسها بما يسر ، وبكاءٌ .. أودعته النفس لتعبر به عن الخشية والفرق ، والخوف والوجل ، ولربما هجم السرور على النفس ، فكان من فرط ما قد سرها أبكاها ، فهي تبكي في الأفراح والأحزان .
إن الله عز وجل أنشأ للإنسان دواعي الضحك ، ودواعي البكاء ، وجعلها وفق أسرار أودعها فيه يضحك لهذا ، ويبكي لذاك ، وقد يضحك غداً مما أبكاه اليوم ، ويبكي مما أضحكه بالأمس ، في غير جنون ولا ذهول ، إنما هي حالات جبلية ، خلقها الله فيه ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) " سورة الذاريات : الآية 21 " .
أيها المسلمون : أيها المسلم ، أيتها المسلمة ، إن الله عز وجل أنعم عليكم بنعمة البكاء لتشكروه عليها ، إذ كيف يعيش من لا يبكي كيف تتفاعل نفسه مع الأحداث والمواقف بماذا يترجم عن الحزن والأسى ، بماذا يعبر عن الخشية والخوف من الله جل وعلا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن نفس لا تشبع ومن عين لا تدمع ومن دعوة لا يستجاب لها ) .
أيها الأحبة :
البكاء قافلة ضخمة ، حطت ركائبها في سوق رحبة ، ما ابتاع الناس منها على ثلاث أضرب : فضرب من الناس اشتروا بكاء العشاق والمشغوفين ، أصحاب الهوى والتيم ، أهل الصبابة والغرام ، الذين هربوا من الرق الذي خلقوا له ، وبلوا أنفسهم برق الهوى والشيطان ، فاشترى هؤلاء القوم هذا الضرب من البكاء شراءً مفتقراً لشروط الصحة ، فابتاعوا بيعاً فاسداً ، ثم زادوا السقم علة ، والطين بلة ، حين أوقفوا هذه الدموع ، واحتسبوها ، في غير وجه شرعي فبطل الوقف ، وخسر الواقف ، وهام الموقوف عليه ، فما أعظمها شقوة ، وما أوعرها هوة .
فما في الأرض أشقى من محب وإن وجـد الهوى حلو المذاق
تـــــــراه باكيــاً في كــــل حيـــن مخــافـة فرقــة أو لاشتــياق
فتســخن عينـه عنـــد التلاقـــي وتســخن عينـه عـند الفـراق
ويبكـي إن نــــأوا شـوقـاً إليــهـم ويبكـي إن دنـوا خـوف الفراق
أعاذنا الله وإياكم من هذه الحال ، ومن حال أهل النار .
وضرب من الناس : ابتاعوا بكاء أهل الحزن على مصائبهم ورزاياهم ، وعلى هذا الضرب جبل الناس فاقتصروا على سلعة ، وافقت جبلتهم التي جبلهم الله عليها ، فأصبحوا لا لهم ولا عليهم .
وضرب ثالث : اشتروا بكاء الخشية من الله عز وجل ، تلكم البضاعة التي زهد فيها معظم القوم إلا من رحم الله . آيات تتلى ، وأحاديث تروى ، ومواعظ تلقى ، ولكن تدخل من اليمنى وتخرج من اليسرى ، لا يخشع لها قلب ولا تهتز لها نفس ، ولا يسيل على أثرها دمع ( اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع ) .
عباد الله : لقد أثنى الله جل وعلا في كتابه على البكائين من خشية الله ، وفي طاعة الله . الأتقياء ، ذوي الحساسية المرهفة ، الذين لا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم ، من حب لله ن وتعظيم له ، وخشية وإجلال، فتفيض عيونهم بالدموع ، قربةً إلى الله وزلفى لديه . ( إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً (107) ويقولون سبحن ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً (108) ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً ) "سورة الإسراء ، الآيات : 107- 109 " ، وقال تعالى : ( أولئك الذين أنعم الله عليهم من ذرية أدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم ءايت الرحمن خروا سجداً وبكياً ) " سورة مريم ، الآية : 58 " وقال تعالى : ( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) "سورة المائدة ، الآية : 83 " وقال تعالى : ( أفمن هذا الحديث تعجبون (59) وتضحكون ولا تبكون (60) وأنتم سامدون (61)فاسجدوا لله واعبدوا (62) ) " سورة النجم ، الآيات : 59-62 " .
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءه عصابة من أصحابه ، فقالوا يا رسول الله : احملنا ، فقال لهم : والله لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم يبكون ، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ، ولا يجدون نفقة ولا محملاً ، فأنزل الله عز وجل ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم (91) ولا على الذين إذا مآ أتوك لتحملهم قلت لآ أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون (92) ) " سورة التوبة ، الآيتان : 91 ، 92 " .
عباد الله : البكاء من خشية الله وصف شريف ، ومسعى حميد ، به وصف الله أنبياءه ، والذين أوتوا العلم من عباده ، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " رجلاً ذكر الله خالياً ففاضت عيناه " " متفق عليه " .. ويمتاز البكاء في الخلوة ، لأن الخلوة مدعاة إلى قسوة القلب ، والجرأة على المعصية ، فإذا ما جاهد الإنسان نفسه فيها ، واستشعر عظمة الله فاضت عيناه ، فاستحق أن يكون تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عينان لا تمسهما النار ؛ عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله ) " رواه الترمذي " صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقد قال ذلك بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه ، قال ذلك وهو أتقى الناس لله ، وأخشى الناس لله ، وأكثر الناس بكاء من خشية الله . ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له اقرأ علي القرآن فقال : أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل ؟ قال : إني أحب أن أسمعه من غيري ، فقرأ من سورة النساء حتى بلغ قول الله ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ) " سورة النساء ، الآية : 41 " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبك فإذا عيناه تذرفان .
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا صلى سمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء ، أي كصوت القدر إذا اشتد غليانه " رواه ابو داود واحمد والنسائي " .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه بكى على ابنه إبراهيم ، حينما رآه يجود بنفسه ، فجعلت عيناه تذرفان الدموع ثم قال : ( إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) " رواه البخاري ومسلم "
إن هذه الدموع الزكية التي سالت من عينه صلى الله عليه وسلم تمثل إحساساً نبيلاً ، ومشاركةً أسيفةً للمحزونين والمكروبين ، وهي لا تتعارض أبداً مع كونه صلى الله عليه وسلم مثلاً للشجاعة ورباطة الجأش ، والرضى بقضاء الله وقدره ، ولكنه بكاء المصطفى الكريم في مواطن الرحمة والإشفاق ، ومن لا يرحم لا يرحم ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ) " سورة الفتح ، الآية : 29 " عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله : ما النجاة ؟ ما النجاة ؟ قال : ( أمسك عليك لسانك ، وليسعك بيتك ، وابك على خطيئتك ) " رواه أحمد والنسائي " .
أيها المسلمون : هذه حال النبي صلى الله عليه وسلم في بكائه من خشية الله ، أخذها الصحابة رضوان الله عليهم . فقد روى الحاكم والبزار بسند حسن عن زيد بن أرقم قال : كنا مع أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فاستسقى ، فقدم له قدح من عسل مشوب بماء ، فلما قربه إلى فيه بكى وبكى ، حتى أبكى من حوله ، فما استطاعوا أن يسألوه عن سبب بكائه ، فسكتوا وما سكت ، ثم رفع القدح إلى فيه مرة أخرى ، فلما قربه من فيه بكى ، وبكى ، حتى أبكى من حوله ثم سكتوا فسكت بعد ذلك ، وبدأ يمسح الدموع من عينيه رضي الله عنه ، فقالوا : ما أبكاك يا خليفة رسول الله ؟ قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكان ليس معنا فيه أحد ، وهو يقول : إليك عني إليك عني ، فقلت يارسول الله : من تخاطب وليس هاهنا أحد ؟ قال صلى الله عليه وسلم هذه الدنيا تمثلت لي فقلت لها : إليك عني ، فقالت : إن نجوت مني فلن ينجو مني من بعدك فخشيت من هذا .
أيها الأحبة : قام محمد بن المنكدر ذات ليلة فبكى ، ثم اجتمع عليه أهله ليستعلموا عن سبب بكائه ، فاستعجم لسانه ، فدعوا أبا حازم ، فلما دخل أبو حازم هدأ محمد بن المنكدر بعض الشيء ، فسأله عن سبب بكائه فقال : تلوت قول الله جل وعلا : ( وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون ) " سورة الزمر ، الآية : 47 " فبكى أبو حازم ، وعاد محمد بن المنكدر إلى البكاء ، فقالوا : أتينا بك لتخفف عنه فزدته بكاء ( وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون ) "سورة الزمر ، الآية : 47 " . كان الربيع بن حيم يبكي بكاء شديداً ، فلما رأت أمه ما يلقاه ولدها من البكاء والسهر ، نادته فقالت : ( يا بني لعلك قتلت قتيلاً ؟ فقال : نعم يا والدة . قتلت قتيلاً فقالت : ومن هذا القتيل يا بني ، نتحمل إلى أهله فيعفوك ، والله لو علموا ما تلقى من البكاء والسهر لقد رحموك ، فقال الربيع : يا والدتي هي نفسي ، يا والدتي هي نفسي ) .
عباد الله : هذا بكاء السلف ، وهذه دموع البكائين تسيل ، ولسان حالهم يقول :
نزف البكاء دموع عينك فاستعر عيناً لغيرك دمعها مدرار
من ذا يعيرك عينه تبكي بهــــا أرأيت عيناً للــدموع تعار
فا تقوا الله عباد الله ، واعلموا أنه لا بد من القلق والبكاء ، إما في زاوية التعبد والطاعة ، أو في هاوية الطرد والإبعاد ، فإما أن تحرق قلبك بنار الدمع على التقصير ، والشوق إلى لقاء العلي القدير ، وإلا فاعلم أن نار جهنم أشد حراً (فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون ) " سورة التوبة ، الآية : 82 " ، فانظر يا عبد الله إلى البكائين الخاشعين تراهم على شواطئ أنهار الدموع نزول ، فلو سرت عن هواك خطوات ، لاحت لك الخيام .
اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم .