الحمد لله الذي من علينا بسنة خير البرايا، فجعلها للأمة أكرم النعم وأجل الهدايا، نحمده سبحانه ونشكره ونسأله الثبات على السنة والسلامة من المحن والرزايا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم السر والخفايا، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله كريم الخصال وشريف السجايا، عليه من الله أفضل الصلوات وأزكى التسليمات وأشرف التحايا، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم تكشف فيه النفوس عما فيها من الأسرار والخبايا.
اما بعد!فأوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته
أيها المؤمنون ! تعالوا بنا في خطبة اليوم، نقف بكم مع قصة من قصص الأمم الماضية، قصّها علينا خير البرية؛ عليه من الله أفضل صلاة وأزكى تحية، فقال عليه الصلاة والسلام: انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا (أي: لا أقدم في الشراب قبلهما أحدا) فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، والصبية يتضاغون عند قدمي (أي يصيحون من الجوع)، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه، فقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إليّ، فأردتها على نفسها فامتنعت، حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفضن الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج، وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد، ترك الذي له وذهب، فثمّرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدِّ إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي! فقلت: لا استهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون.
أيها الإخوة المؤمنون، تأمّلوا هذه القصة التي قصّها علينا نبيُّنا محمد أصدق الناطقين من البشر، وإنَّما قصّها علينا لنتَّخذَ منها الدروس والعبر.
فأول هؤلاء الثلاثة، ضرب مثلا اعلى في بر الوالدين، يقدم اللبن لوالديه قبل أهله وأولاده فبقي يوما ينتظر اسيقاظ والديه طوال الليل، ولم يسق أولاده وأهله، فدل هذا الحديث على فضل بر الوالدين، وعلى أنه سبب لتيسير الأمور وتفريج الكروب، وهذا نموذج رائع في بر الوالدين، فما بال شبابنا اليوم يقصرون في بر آبائهم وأمهاتهم، فكم نسمع من يلتمس رضا زوجته ويقدمه على رضا والديه، فربما لو غضبت الزوجة لأصبح حزيناً كئيباً يومين أو أكثر، ولو غضب عليه والداه، ولا كأن شيئاً قد حصل، فيدخل بيت والديه عبوس الوجه ، فإذا دخل غرفة نومه سمعت الأم الضحكات تتعالى من وراء باب الحجرات، هذا نوع من العقوق.
إني أدعوكم جميعاً ألا تخرجوا من هذه الخطبة، إلا وقد عاهدتم الله أنه من كان بينه وبين والديه خلاف أن يصلح ما بينه وبينهم، ومن كان مقصراً في بر والديه، أن يعاهد أن يبذل ما في وسعه في برهما.
وأما الرجل الثاني: فهو نموذخ رائع للشباب، في الخوف من الله الشديد العقاب، فعندما ذكرته هذه المراة بالله تركها، ولم يأخذ شيئا مما أعطاها يقول رسول الله سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم ((رجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).
ما أعظم الفرق بين هذا وبين من يسافر بحثا عن الدعارة والمجون! ألا فليعلم الإنسان أن الله عليم شهيد ورقيب، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وليعلم الإنسان أنه على خطر عظيم، إن لم يتوبوا إلى الله التواب الرحيم.
عباد الله: وأما الرجل الثالث في القصة: فهو نموذج عظيم في الأمانة، حيث استثمر مال اجيره حتى بلغ ما بلغ، وسلمه إلى صاحبه، ولم يأخذ على عمله شيئا، ما أعظم الفرق بين هذا الرجل وبين أولئك الذين يظلمون العمال ويأكلون حقوقهم، ولم يرض الله عز وجل محاميا من أي مخلوق مهما كان، إذا ضاعت حقوق العمال؛ بل تولى بنفسه المحاماة والدفاع. ففي الحديث القدسي قال الله تعالى: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل إستأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره» نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا لعمل الصالحات، ويدخلنا برحمته الجنات. أقول قولي هذا...
الثانية
الحمد لله....
كل واحد من هؤلاء الرجال الثلاثة ، كان له موقع في المجتمع
فالرجل الأول يمثل علاقة الفرد مع محارمه و أقاربه فضرب مثلا عظيما في بر الوالدين
و الثاني يمثل علاقة الفرد مع غير محارمه فكان نموذجا رائعا في التعفف والخوف من الله الواحد الديان
و الثالث يمثل علاقة الفرد مع رب عمله و علاقة رب العمل مع عامله
ومجتمعنا الآن في أمس الحاجة إلى هذه الصفات الثلاثة و هي البر و التعفف و الأمانة ..
فإذا كانت العلاقات مع الأقارب و الأرحام يسودها البر و الرحمة
و العلاقات الاجتماعية الأخرى يسودها التعفف و الخوف من الله
و العلاقات المادية و التجارية تسودها الأمانة، سيرتقي مجتمعنا الى أعلى الدرجات، وسيتبوأ أعلى مراتب الكمال .
عباد الله! ومن أعظم فوائد هذه القصة إضافة الى ما تقدم: جواز التوسل بصالح الأعمال عند وقوع المسلم في ضيق و في شدة ، بل إن ذلك التوسل سبب لتفريج الكروب، كما هو واضح في آفاق الحديث، فهؤلاء هؤلاء لما ضاقت بهم السبل توسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم ففرج الله عنهم.
فاللهم إني بحثت عن عمل صالح نتوسل به إليك فلم أجد إلا محبتك و محبة رسولك، فاجعل هذا العمل الصالح منقذاً لنا من كربات الدنيا و الآخرة.
هذا وصلوا
اللهم صل على سيدنا محمد...
وارض اللهم عن جميع صحابته الأبرار, وعن أزواجه وسائر آل بيته الطيبين الأطهار, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وانصر اللهم أمير المؤمنين محمدا السادس, حامي الملة والدين, اللهم احفظه بما حفظت به الذكر الحكيم وأقر عينيه بولي عهده المحبوب واحفظه في كافة أسرته الشريفة إنك حميد مجيد,
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ونفس لا تشبع ودعاء لا يستجاب، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما اخرنا وما أسررنا وما اعلنا وما أنت أعلم به منا، اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمن سواك،
رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ
رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (.