إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ( ) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
أما بعد ـ عباد الله ـ: فدورات الأفلاك تتصرم، وسنوات الأعمار تنقضي.. أفلاك سابحة، وكواكب سيارة وثابتة، وكل يجري لأجل مسمى، حلول وارتحال، وجود وزوال، وما بدأ سينتهي، وما ولد سيموت، بعد الإشراق غروب وليس بعد التمام إلا النقص، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ سنة الله في خلقه وأكوانه، تبدل الأحوال دائم مستمر، فهل من متأمل معتبر؟!
ما خلق الله الدنيا على تلك الحال المتحولة المتنقلة إلا لحكمة بالغة، ولقد قال بعض الصالحين: لو أن الله لم يعبد إلا عن رؤية ما عبده أحد، ولكن المؤمنين تفكروا في مجيء الليل والنهار، وتفكروا في السحاب المسخر بين السماء والأرض، وتفكروا في الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وتفكروا في مجيء الشتاء والصيف، فوالله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق لهم ربهم حتى أيقنت قلوبهم، وحتى كأنما عبدوا الله عن رؤيته.
يذكرنيك الحر والبرد والذي أخاف وأرجو والذي أتوقع
قال ابن رجب: كل ما في الدنيا فهو مذكر بالآخرة ودليل عليه،..ثم قال: وفصول السنة تذكر بالآخرة، فشدة حر الصيف يذكر بحر جهنم، وهو من سمومها، وشدة برد الشتاء يذكر بزمهرير جهنم، وهو من زمهريرها، والخريف يكمل فيه اجتناء الثمرات التي تبقى وتدخر في البيوت فهو منبه على اجتناء ثمرات الأعمال في الآخرة، وأما الربيع فهو أطيب فصول السنة وهو يذكر بنعيم الجنة وطيب عيشها.اهـ
أيها المؤمنون: أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اشتكت النار إلى ربها فقالت: ياربِ أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم"
قال الحسن: كل برد أهلك شيئا فهو من نفس جهنم، وكل حر أهلك شيئاً فهو من نفس جهنم.
فإذا كان ما يجده الناس من البرد من نفس جهنم فيهرعون ويتسابقون إلى الثياب ووسائل التدفئة، فكيف يكون حال أهلها؟! لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ( ) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ( ) جَزَاءً وِفَاقًا قال ابن عباس: الغساق الزمهرير البارد الذي يحرق من برده. وقال مجاهد: لا يستطيعون أن يذوقوه من برده. وقال: يهربون إلى الزمهرير فإذا وقعوا فيه حطم عظامهم حتى يسمع لها نقيض، نعوذ بالله من عذاب جهنم.
أيها المسلمون: كان لسلف هذه الأمة مع الشتاء خبر وحال ليست كخبرنا وحالنا، كانوا أهل صيام وقيام.
كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: مرحباً بالشتاء، تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للقيام،
وقال الحسن: نعم زمان المؤمن الشتاء، ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه.
وفي المسند ـ وحسن إسناده الهيثمي ـ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الشتاء ربيع المؤمن" قال ابن رجب: إنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه..ثم ذكر ما أخرجه أحمد وبعض أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة"وكان أبو هريرة يقول: ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا : بلى، فيقول الصيام في الشتاء.
وإذا كان القيام من الليل في الشتاء أيسر من جهة أخذ النفس حظها من النوم، فإنه أشق من جهة تألمها بإسباغ الماء على الأعضاء، وقيامها من الفراش في شدة البرد، وبمجاهدتها بانتزاعها من التلذذ بالدفء، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط"
وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ربه عز وجل ـ يعني في المنام ـ فقال له: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: في الدرجات والكفارات، قال: والكفارات إسباغ الوضوء في الكريهات، ونقل الأقدام إلى الجمعات ـ وفي رواية: الجماعات ـ وانتظار الصلاة بعد الصلاة، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه.."الحديث.
وفي بعض الروايات: "إسباغ الوضوء في السَبَرَات" والسبرة: شدة البرد.
وأوصى عمر رضي الله عنه ابنه عند موته فقال له: يا بني عليك بخصال الإيمان، قال وما هي؟ فذكر منه: إسباغ الوضوء في اليوم الشاتي.
ولا شك ـ عباد الله ـ أن من يطول نومه إلى طلوع الصبح وفوات صلاة الفجر لا حظ له في ذلك.
أيها المسلمون: ومن رحمة الله بعباده وتيسيره عليهم في هذا الدين، أن جميع أحكامه وشرائعه في أصلها ميسرة، فإذا طرأ على العبد ما يقتضي التخفيفَ أيضا خفف الله عنه بحسب حاله مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
فهذه مثلا الطهارة شرعها الله في صورة ميسرة، بالغسل للوجه واليدين والرجلين والمسح للرأس، وتصوروا لو كان يجب غسل الرأس عند كل وضوء !! لكان دائم الرطوبة كثير البلل، فيحصل للإنسان من المشقة والعسر الشيء الكثير.
ثم من صور التيسير أيضا أن شرع سبحانه المسح على الرجلين بدلا من غسلهما إذا كان على الإنسان جواربُ أو خفان، وهو قد لبسهما على طهارة، سواء لبسهما اتقاء للبرد أو للتجمل أو لغير ذلك، فإن كان مقيما مسح يوما وليلة وإن كان مسافرا مسح ثلاثة أيام بلياليها، تبتدئ مدة المسح من أول مسحة مسحها، لا يضره أن يكون في الجورب خروق يسيرة، فإذا انتهت المدة وجب عليه أن يغسل رجليه، ومن نسي ومسح عليهما بعد انتهاء المدة توضأ وأعاد الصلاة التي صلاها بالمسح بعد انتهاء مدته.
وصفة المسح: أن يبل يديه بالماء ثم يمرهما على ظهر الخفين أو الجوربين من أطرافهما مما يلي أصابع القدم إلى الساق مرة واحدة، ولا يمسح باطنهما.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين عن خلع الجوربين عند كل وضوء احتياطاً للطهارة..
فأجاب: هذا خلاف السنة وفيه تشبه بالروافض الذين لا يجيزون المسح على الخفين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال للمغيرة حينما أراد نزع خفيه: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين" ومسح عليهما.اهـ
وقد عد أهل العلم المسح على الخفين من السنة المتواترة، حيث ورد فيه أربعون حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون: ومن صور اليسر في هذا الدين العظيم: جواز الجمع بين الصلاتين عند وجود المقتضي لذلك من سفر أو مطر أو غيرهما، فيجمع المصلي بين الظهر و العصر أو بين المغرب والعشاء،جمع تقديم أو تأخير، أخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر، قالوا: ما أراد؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته"
وهذا الجمع له شروط وضوابط: بأن يحصل للناس مشقة معتبرة بتركة، لوجود مطر شديد مثلا، أو وحل ودحض يحصل به العنت، ومن تأمل في كلام أهل العلم ومصنفاتهم علم أن بعض الناس وأئمة المساجد يتعجلون في الجمع دون وجود مبيحه على الحقيقة، وإذا تردد الناس في وجود المشقة أو عدم وجودها فالأصل أداء الصلاة في وقتها، خاصة في مثل زمننا هذا، حيث لم يعد هناك في الغالب في المدن الكبار وحل ولا دحض ولا ريح مؤذية، مع قرب الدور إلى المساجد وسهولة الطرق وتعبيدها، أما المشقة اليسيرة أو الخاصة التي تحصل لواحد أو اثنين من عشرات الناس فهذه لا يخلو منها حال، وقد سئل سماحة الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ سؤالا هذا نصه: في الأيام الماضية بعض أئمة المساجد جمعوا صلاة المغرب والعشاء بعد نزول مطر خفيف لم يحصل بنزوله مشقة، فما الحكم؟ فأجاب: لا يجوز الجمع بين العشاءين أو الظهر والعصر بغير عذر شرعي كالسفر والمرض والمطر الذي يبل الثياب ويحصل به بعض المشقة، أما من جمع بين العشاءين أو الظهر والعصر بغير عذر شرعي فإن ذلك لا يجوز وعليه أن يعيد الصلاة التي قدمها على وقتها..اهـ
ومما يحسن التنبيه إليه أن صلاة الجمعة لا تجمع إليها صلاة العصر، فهي تختلف عن صلاة الظهر في صفتها ووقتها وشروطها..ولم يرد الدليل على جواز جمعها.
والسنة قصد بين طرفين، ولن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه، والموفق من تعلم ما ينفعه وعمل به، ولم يتبع نفسه هواها، وفي الحديث مرفوعا:"إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق" أحمد، صحيح الجامع
أقول ما تسمعون وأستغفر الله ..
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم...
أما بعد: فأوصيكم ــ عباد الله ــ ونفسي بتقوى الله عز وجل0
أيها المسلمون: إن من حكمة الله تعالى في دوران الأفلاك وتبدل الأحوال وتغير المواسم أن ذلك أصلح للعباد في معاشهم وأحوالهم و أقواتهم، وتأمل إذا حل الشتاء كيف تكون الأحوال من سعى الناس لتحصيل آلة دفع البرد وما يقيهم بأسه وشدته، ثم تأمل في قدومه بالتدريج، ومعرفة الناس بوقت ذلك في الغالب، قال ابن القيم رحمه الله: فكر في دخول أحدهما على الآخر بالتدريج والمهلة ــ يعني الحر والبرد ــ حتى يبلغ نهايته ولو دخل عليه مفاجأة لأضر ذلك بالأبدان وأهلكها، وبالنبات، كما لو خرج الرجل من حمام مفرط الحرارة إلى مكان مفرط البرودة، ولولا العناية والحكمة والرحمة والإحسان لما كان ذلك. اهـ مفتاح دار السعادة 2/72
ولقد امتن الله على عباده بأنه خلق لهم ما فيه دفء لهم فقال سبحانه: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
وكان عمرــ رضي الله عنه ــ يكتب لأهل الشام إذا حضر الشتاء يوصيهم : إن الشتاء قد حضر وهـو عدو فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب واتخذوا الصوف شعاراً ودثاراً فإن البرد عدو سريع الدخول بعيد خروجه0
وذلك من تمام نصحه وشفـقته وحياطته لرعيته رضي الله عنه0
فمن تمام حكمة المؤمن أن يضع كل شيء في موضعه 0
ثم تذكروا ـ عباد الله ـ إذا اشتد البرد ولسع الأبشار وقرقف الأعضاء، فهرعتم إلى الثياب الدافئة، تذكروا إخواناً لكم يزداد عناؤهم بالبرد عناءً، ولأواءهم بالشتاء لأواء، أسبال ممزقة وطعام بارد، وحال مزريه0
ثم صلوا وسلموا..