لخص الخطبة
1- غاية الرسالة المحمدية. 2- أمر الله تعالى بالدعوة إلى دينه. 3- فضل الدعوة إلى الله وعظم أجرها. 4- يسر الدعوة إلى الله وتنوع سبلها. 5- ضوابط الدعوة. 6- إرشادات للدعاة إلى الله.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عِبادَ الله ـ حقَّ التَّقوى، فالتَّقوَى لاَ يَقبَل ربُّنا غَيرَها، ولا يَرحَم إلاَّ أهلَها.
أيّها المسلِمون، أرسَلَ الله رَسولَه بالهدَى ودينِ الحقِّ إلى النَّاسِ جميعًا، ورِسالتُه باقيَةٌ إلى يَومِ الدِّين، وغَايتُها هدايةُ الخَلق أجمعين؛ ليظفَروا بسعادةِ الدَّارَين، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]. وقد بلَّغ رسالةَ ربِّه، وأمَر المسلمين بالسَّير على مِنهاجه. والدعوةُ إليه هي وَظيفةُ الرّسُل جميعًا، ومن أجلها بَعَثهم الله إلى أقوامِهِم، قال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36]. ومِن نعوتِ الله لصفوةِ خَلقِه كونُه داعيًا إلى الله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب: 45، 46].
وأَعَادَ الله إِليه الخطابَ بأمرِه بالدَّعوة إليه والاستمرارِ عليها وعدمِ التخلِّي عنها، فقال جلَّ وعلا: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [الحج: 67]، وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ [الرعد: 36].
والسَّعيُ إلى هدايةِ الخَلقِ وَصيَّةُ المرسَلين لأتباعِهم، قال عليه الصلاة والسلام لمعاذٍ : ((إنّك تأتي قومًا أهلَ كتاب، فليكن أوّلَ ما تدعوهم إليه شهادةُ أن لا إلهَ إلا الله وأني رسولُ الله)) متفق عليه.
وأمَرَ الله عمومَ المجتمعاتِ بالقيام بها فقال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران: 104]. وكلُّ متَّبعٍ لرسول الله حقٌّ عليه أن يقتدِيَ به في الدَّعوةِ والعَمَل بما شَرَع لعبادِه، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108].
والكَمَالُ أن يَكونُ الشخصُ كاملاً في نفسِه مكمِّلاً لغيره، قال ابن القيِّم رحمه الله: "مَن عَلِم وعَمِل وعَلَّم فذَاك يُدعَى عظيمًا في ملكوتِ السماوات" ومن عَلِم مسألةً من المسائِل قامَت عَليه الحجّةُ فيها ولو لم يَكن مِنَ العلماءِ، قال النبيُّ : ((والقرآنُ حجّةٌ لك أو عليك)) رواه مسلم.
وفي زمنِ الفِتَن وضَعفِ الإقبالِ عَلَى الله تتأكَّد الدعوةُ والنُّصح لعبادِه على كلِّ فردٍ مسلم، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فالنفوسُ إلى معرفة ما جاء بهِ النبيُّ أحوجُ منها إلى الطعامِ والشراب؛ فإنَّ هذا إذا فات حصَل الموت في الدنيا، وذاك إذا فاتَ حَصَل العذاب".
وإخراجُ الناس من العمَى إلى الهدى خيرُ الأعمال وأبرُّها عند الله؛ إذ قولُ الداعية أحسنُ الأقوال في ميزان الله، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33].
وكلُّ عملٍ يقوم به مَن اهتَدَى بدعوتِك لك فيه نصيبٌ وإن كنت تحتَ الثّرى، فأبو بكر الصدّيق أسلم على يَدَيه عثمان بنُ عفان، وعثمانُ جهَّز جَيشَ العسرةِ، وفي جيش العُسرةِ من ضوعِفَت له الدرجات، وهكذا سارَتِ الدَّعوةُ من صحابيٍّ إلى آخر، فحَصَل للجميع الأجرُ العظيم، وللأوّل النصيبُ الأوفى من ذلك، قال عليه الصلاة والسّلامُ: ((مَن دَعا إلى هُدى كان له من الأجرِ مِثلُ أجورِ مَن تَبِعَه، لا ينقص ذلك من أجورِهم شيئًا)) رواه مسلم.
واهتِداءُ رجلٍ واحدٍ بسَبَب دعوتك ونصيحتك خيرٌ لك من أنفَسِ الأموال، يقول عليه الصلاة والسلام: ((فوَالله، لأن يهدِيَ الله بكَ رَجلاً واحدًا خيرٌ لك مِن حُمُر النَّعَم)) متفق عليه.
وطريقُ الدَّعوة ميَّسرٌ لا قيودَ فيه؛ إذ البلاغة والفصاحةُ ليست شرطًا في نصحِ عِباد الله، فكليمُ الرحمن موسى عليه السلام ثَقُل لسانه عن البيانِ وسأل ربَّه بقوله: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه: 27، 28]، ولم يكن ذلك مانِعًا له من إبلاغِ رِسالة ربِّه، فأصبحت أمّتُه أكثرَ الأمم بعد أمّةِ نبيِّنا . فبلِّغ ما تَعلَمُه مِن الشَّريعة، ولا يَكنِ الحياء مانعًا لك عن تبليغِ الخيرِ للغَير، فربُّك يقول: وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [المؤمنون: 62].
ومِن رأفةِ الله بعبادِه أنَّ سُبُل الدّعوةِ إليه سبحانَه متَنَوِّعَة يَقوم بها كلُّ مسلم، فناصِحُ الفرد على خَلوةٍ به دعوةٌ، ونُصحُ الأب لابنِه قُربَة، وصَلاحُ الأمّ قدوة، ودَعمُ سبُل الخير بالمال فضيلةٌ، وتسهيل طرُق الدعوةِ دعوةٌ، وبهذا يصبِح المجتمع كلُّه على اختلافِ فِئاتِه دعاةً إلى الله؛ بالمال والقَلَم واللسان.
والدّعوةُ الصادقة ما كانت على وفقِ ضوابطِ الشريعة، ودينك دينٌ عظيم منصورٌ بنصرِ الله له، فلا تداهِن غَيرَك حالَ الدعوةِ إليه، ولا تُلَوِّثها بارتكابِ مَعصيةٍ فيها ولو خُيِّل إليك أنَّ القلوبَ تَنجَذِب بها إليك، قال عزَّ وجلَّ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 9].
وسُنّةُ الله قضَت أنَّ ذوي العصيان أكثرُ عددًا ممن يطيع الرحمن، قال عزَّ وجلَّ: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [المائدة: 49]، فلا تَضعُف عن نصحِ الخلق ولو كثُر الانحراف، ولا تيأَس ولو اعتَزَّ الباطل، يقول الفضيلُ رحمه الله: "لا تغتَرَّ بالباطل لِكثرةِ الهالكين، ولا تَستَوحِش منَ الحقِّ لقِلَّةِ السالكين".
ولا تَتَطلَّع إلى ثمرةِ دعوَتِك بكثرةِ المستَجيبين، فَفَتحُ القلوبِ مرَدُّه إلى علاَّم الغيوب، وعمَلُك مقصورٌ على البيانِ والتعليم والدعوة، وليست لكَ الهدايةُ وتحويل القلوبِ، قال جلَّ وعلا: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ[المائدة: 99]. فبلِّغ وربُّك المسدِّد، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال: 17].
كم سَعَى النبيُّ إلى إِسلامِ عمِّه أبي طالب، فلم يتحقَّق له ما أرادَ، وأنزَلَ الله عليه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص: 56]. ومِنَ الأنبياء مَنِ اجتهدَ في دعوة قومِه سنينَ عددًا، فلم يستجيبوا له، قال عليه الصلاة والسلام: ((عُرضت عليَّ الأمم فرأيتُ النبيَّ ومعه الرهط، والنبيّ ومعه الرجلُ والرَّجلان، والنبيّ وليس معَه أحدٌ)) متفق عليه.
فتزوَّد من العلم واسلُك سبيلَ الحكمة، فرُبَّ كلمةٍ قد تُسعِد بها أقوامًا على مرِّ الدُّهور، ولا تَتَوانَ عن الدّعوة على اختلاف الأزمانِ والأحوالِ، فنوحٌ عليه السّلام دَعا قومَه ليلاً ونهارًا سِرًّا وجِهارًا، ويوسُفُ عليه السلام وهو في سِجنِه نصَحَ غيرَه: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: 39].
ومَن استَضَاء بنور الهِداية فعليه أن يُضيء غيرَه من ضِيائها، والإحسانُ إلى الخَلقِ يَستمِيلُ القلوبَ، وبحُسنِ المنطِقِ والخُلُق ينجَذِب الخَلق. والنّبيُّ كان داعيةً في أخلاقِه ومعامَلاته، وقد كان غلامٌ يهودِيّ له يخدِمُه، فمرِض فَعَادَه عَلَيه الصّلاة والسَّلام، فقعد عِند رأسِه وقال له: ((أسلم))، فنظر الصبيُّ إلى أبِيه وهو عنده، فقال أبوه: أطِع أبا القاسم، فأسلَمَ الغلام، فخرج النبيُّ وهو يقول: ((الحمدُ لله الذي أنقَذَه من النار)) رواه البخاري. وقَد فُتِحَت بِلادٌ من أَصقَاعِ المعمُورَةِ بالكلِمَة والمعامَلَةِ الحسنة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل: 125].
باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العَظِيم، ونفعني الله وإيَّاكم بما فيهِ مِنَ الآيات والذِّكرِ الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستَغفِر الله لي ولكم ولجميع المسلمين مِن كلِّ ذَنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرَّحيم.
الخطبة الثانية
الحمد للهِ عَلَى إحسانه، والشكر له علَى توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى أصحابه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: أيها المسلمون، الرّكونُ إلى الأسبابِ في النُّصح فحَسب لا يكفِي في الدّعوة ونصح الآخرين، ومِنَ النّصحِ للمدعو الإكثارُ من الدعاء له في ظَهرِ الغَيب، فكم من دعوةٍ صَادِقَةٍ كانت سبَبًا في إصلاحِ أقوامٍ وتغيُّرِ أحوال، فانتقل بسَبَبِها كافر إلى الإسلامِ، وتحوَّل بها عاصٍ إلى الطاعةِ وقوّة الإيمان، فأكثِر مِنَ الدعاء للعاصي بالهدايةِ والثبات، وأنت مُثابٌ على دعوتك ولكَ مِثلُ ما طلبتَه لأخيك من الخير والهدى، يقول المزَنيّ رحمه الله: "ما فاقَ أبو بكر أصحابَ رسولِ الله بصوم ولا صلاةٍ، ولكن بشيءٍ كان في قلبه: الحبّ للهِ والنصيحَة لخلقه".
ولازِمِ الصبرَ على ما تلاقيه من الأذى، فالعاقبةُ للتقوى. والطّاعةُ نورٌ يقذِفُه الله في الصّدورِ، فيؤثِّر في استجابةِ القُلوب، وكَثرةُ التعَبّد لله والخضوعُ له نِعمَ العونُ على تحقيق المبتَغَى، فالقلب إذا صفَا أثَّرَ، وإذا تكدَّر أضرَّ. واستعِن في دعوتِك بالضَّراعة إلى الله أن يبارِكَ فيك وفي دَعوتك، وأن يسدِّدَ خُطاك، وأن يُصلِحَ نيتَك.
ثمّ اعلَموا أنَّ الله أمرَكم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال في محكم التنزِيلِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وزِد وبارك على نبيِّنا محمّد، وارض اللّهمّ عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبِه كانوا يعدلون: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنّا معهم بجودِك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدّين...