فقد تطرّقنا في الحلقة السّابقة إلى اسمي الظّاهر والباطن، وذكرنا هناك أنّهما يدلاّن على معاني كثير من أسماء الله عزّ وجلّ، فمن هذه الأسماء الّتي يدلّ عليها اسم الظّاهر:
6- العلـيّ 7- الأعلـى 8- المتعالـ
أمّا ( العليّ ): فهو صفة على صيغة المبالغة من العلوّ، فيقال ( عليّ ) مبالغةً لـ:عالٍ، كما يقال قدير مبالغة لقادر.
وذلك لأنّ كثيرا من المخلوقات توصف بالعلوّ، ولكنّه تعالى له كمال العلوّ، قال تعالى:{وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: من الآية255] وقال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: من الآية12]..
وأمّا ( الأعلى ): فهو على وزن " أفعل التّفضيل "، فمهما علا الشّيء فالله أعلى، قال تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1]، وقال: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [اللّيل:20]..
وأمّا ( المتعال ): فقال الطّبري رحمه الله:" المتعال: المستعلي على كلّ شيء بقدرته، وهو المتفاعل من العلوّ مثل المتقارب من القرب".
فنلاحظ أنّ العليّ أبلغ؛ لأنّها تثبت العلوّ له مطلقا سواء وُجِد من يتعالى أو لا، في حين أنّ الأعلى والمتعالي تشير إلى أنّه أعلى من غيره.
وكلّ هذه الأسماء تثبت للمولى تبارك وتعالى صفة العلوّ بجميع معانيه، الذي هو مستقرّ في الفطر، وهو أنواع:
1- علوّ القدر: وهو علوّ صفاته وعظمتها، فلا يماثله مخلوق، بل لو اجتمع الخلق كلّهم لما استطاعوا أن يحيطوا ببعض معاني صفة واحدة من صفاته سبحانه، قال عزّ وجلّ: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}.
2-علوّ القهر: كما قال تعالى:{وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ}، الذي قهر بعزّته وعلوّه الخلق كلّهم، فنواصيهم بيده، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا يمانعه ممانع، وليس لأمره من دافع.
3-علوّ الذّات: فهو فوق جميع مخلوقاته في سمائه، عاليا على خلقه، بائنا منهم، ويعلم حركاتهم وسكناتهم وأعمالهم وأقوالهم، لا تخفى عليه خافية.
قال تعالى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَي} [آل عمران: من الآية55]، وقال تعالى:{بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ}، وقال:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:18]، وقال سبحانه:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النّحل:50]، وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه} [فاطر: من الآية10]، وقال: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)}، وقال:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]..وقال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16]..وغيرها من الآيات..
وصفة العلوّ صفة ذات تدلّ عليها الفطرة، أي: فُطِرت النّفوس على إثباتها، وجبلت القلوب على معرفتها، بل إنّ أعتى مخلوق وأكفرهم كان يعتقد ذلك، فقد قال الله تعالى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً (37)} [غافر]..
ولا يجد المرء من نفسه حال الدّعاء إلاّ أن يرفع يديه وبصره ويتّجه بقلبه إلى السّماء، وقد نقل ابن تيمية رحمه الله تعالى إجماع الملل على ذلك.
ومن الأحاديث في ذلك الكثير والكثير:
- ما رواه البخاري ومسلم عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً )).
- ما رواه التّرمذي وأبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ )).
- حديث عروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى ربّه.
- ما رواه مسلم عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قال - وذلك بعدما ضرب جاريته وندم-: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَفَلَا أُعْتِقُهَا ؟ قَالَ: (( ائْتِنِي بِهَا !)) فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: (( أَيْنَ اللَّهُ ؟ )) قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: (( مَنْ أَنَا ؟)) قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: (( أَعْتِقْهَا؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ )).
- ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم تَقُولُ :"زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ ".
- ما رواه أحمد قال: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال لعائشة حين دخل عليها وهي تحتضر: وَأَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ جَاءَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ فَأَصْبَحَ لَيْسَ لِلَّهِ مَسْجِدٌ مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ إِلَّا يُتْلَى فِيهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ".
وغير ذلك من الأحاديث التي أيّدت الفطرة السّليمة البعيدة عن القواعد الفلسفيّة السّقيمة.
وعلى هذا سار الصّحابة والتّابعون كلّهم، وعنهم آثار يصعب حصرها، وقد جمع الكثير منها العلاّمة الذّهبي في كتابه " العلوّ للعليّ القهّار " واختصره العلاّمة الألباني رحمه الله، ولابن قدامة أيضا كتاب في " إثبات صفة العلوّ" حقّقه بدر البدر، كما جمعها أسامة القصّاص رحمه الله في كتابه " إثبات علوّ الله على خلقه والردّ على المخالفين "، وهو أحسن ما ألِّف، ولموسى الدّويش كتاب " علوّ الله على خلقه " وهو نافع ومفيد.
أمّا صفة الاستواء فهي صفة جاء بها السّمع والنّقل، وهذا هو الفارق بين صفة العلوّ والاستواء، فالعلوّ ثابت بالفطرة، والاستواء على العرش ثابت بالنّقل.و
في القرآن الكريم سبع آيات تذكر استواء الله على عرشه: في سورة الأعراف 54، ويونس 3، الرّعد 2، وطه 5، والفرقان 59، والسّجدة 4، والحديد 4.
والجدير بالتّنبيه عليه أنّها جاءت في سياق إثبات قدرة الله تعالى على الخلق كقوله:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد:2]، وقوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59].. ممّا يدلّ على أنّها صفة كمال وعظمة، لاصفة نقص.
( تنبيه مهمّ ): قول المسلم:" الله في السّماء " قول مطابق لما في الكتاب والسنّة، ولا يرِد علينا قول المخالف: كيف يكون الله الخالق في السّماء المخلوقة ؟ فالجواب أن يقال: إنّ معنى ( في ) يحتمل أحد أمرين:
- الأوّل: أنّها بمعنى ( على )، فإنّه من المقرّر في لغة العرب أنّ ( في ) تأتي للاستعلاء، ومنه قوله تعالى: { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا }.
- الثّاني: أنّها على أصلها وهو الظّرفية، ويكون معنى ( السّماء ) حينئذ ( العلوّ) لا هذا الجرم المخلوق، والعرب تُطلق على العلوّ لفظ السّماء، فالطّائر بحلّق في السّماء، وتقول: رمى بالحجر في السّماء، ونحوه كثير.
فصل في الجواب عن شبه المخالف.
فإنّه قد جرى النّاس على الاسترسال وراء الشّبهات حتّى صارت من القطعيّات، وإنّ كثيرا ممّن وقع في أوحال التّأويل راح يلتمس الأدلة التي يظنّها ناهضة، وهي ليست سوى شبهات داحضة، منها:
-الشّبهة الأولى: إثبات الله تعالى معيّته لعباده، كقوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم} [الحديد: من الآية4]، وبقوله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: من الآية7].
والحقّ أنّ المعيّةنوعان: معيّة عامّة، ومعيّة خاصّة.
- فالعامّة: أنّه مع عباده بعلمه وسمعه وبصره لا يغيب عنه من أفعالهم وأقوالهم شيء{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] وهذا ما تقرّره الآيتان المذكورتان في شبهتهم، ألا ترى سياقها وسباقها ؟ فهو يبيّن لعباده سعة علمه:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4].. وانظر إلى قوله:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7].
ولله المثل الأعلى، فإنّ الله خلق الشّمس والقمر مكانهما السّماء ونورهما يصاحب العباد.
- أمّا المعيّة الخاصّة، فهي ثابتة للمؤمنين الصّالحين، قال تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:من الآية123]، وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: من الآية153]، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، وقال:{قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طـه:46]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النّحل:128]..
ويمكن أن يقال: إنّ هناك معيّة أخصّ، وهي: أنّه تعالى يكون مع عباده يوم القيامة يكلّمهم ويكلّمونه، يحدّثهم ويحدّثونه. نسأل الله النّظر إلى وجهه الكريم.
الشّبهة الثّانية: تفسيرهم "استوى" بمعنى "استولى"، ويستشهدون ببيت من الشّعر:
قد استـوى بِشْـر على العـراق من غيـر سيـف ولا دم مـهـراق
وبيان بطلان هذه الشّبهة من وجوه:
1-الوجه الأوّل: أنّ (استوى) لا تأتي في لغة العرب بمعنى استولى، وغاية معاني الاستواء أنّه يأتي بمعنى:
أ)علا، كما في قوله تعالى:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13].
ب)بمعنى انتصب قائما، كقوله تعالى:{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: من الآية29].
ج)بمعنى المساواة، فتقول العرب: استوى هذا وذاك.
د)بمعنى التّمام والكمال، ومنه على أحد الأقوال قوله تعالى:{ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:6]، ومنه السويّ.
2- الوجه الثّاني: لقد فرّ المعطّلة من صفة العلوّ التي هي صفة كمال إلى صفة نقص، لأنّ الاستيلاء لا يكون إلاّ بعد فقد الشّيء، !
وما أجمل ما ذكره ابن منظور رحمه الله وغيره قال:" قال داود بن علي الأصبهاني: كنت عند ابن الأعرابيّ، فأتاه رجل فقال: ما معنى قول الله عزّ وجلّ:{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} ؟ فقال ابن الأعرابيّ: هو على عرشه كما أخبر. فقال: يا أبا عبد الله ! إنّما معناه (استولى). فقال ابن الأعرابيّ: ما يدريك ؟ العرب لا تقول:"استولى" على الشّيء حتّى يكون له مضادّ، فأيّهما غلب فقد استولى ".
قال ابن القيّم رحمه الله في "اجتماع الجيوش الإسلاميّة" (192):
" ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه كما قال الشّاعر: (قد استوى بشر على العراق)، لأنّ الاستيلاء هو القدرة والقهر، والله تعالى لم يزل قادرا قاهرا عزيزا مقتدرا، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى} يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، فبطل ما قالوه "اهـ.
3-الوجه الثّالث: لقد فرّوا من العلوّ لأنّ فيه مشابهة للمخلوقين - على حدّ زعمهم -، وفرّوا إلى صفة من صفات المخلوقين أيضا وهو الاستيلاء، ولو أنّهم فقهوا معنى قوله عزّ وجلّ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: من الآية11] لأراحوا واستراحوا.
فالقول في بعض الصّفات كالقول في بعضها الآخر، كما هو مقررّ في قواعد إثبات أسماء الله وصفاته.
4- الوجه الرّابع: ثمّ اعجب من استدلالهم بهذا البيت وهو لا يُعرف قائله، وهل هو ممّن يُحتجّ بلسانه ؟ وقد رأيناهم ينكرون الاحتجاج بالأحاديث الصّحيحة المرويّة آحادا ! فهل هذا إلاّ كيل بمكيالين، ولعب على الحبلين ؟!
5- الوجه الخامس: ثمّ إنّنا نقول لو فرضنا ثبوت هذا البيت عن قائل معروف يُحتجّ بلسانه، فإنّه لا يُنافي العلوّ، لأنّ العلوّ مع الاعتدال والتمكّن هو الاستواء، فكذلك الملك فإنّه يعلو على عرش مملكته.
فإنّ المراد بالبيت ( بشر بن مروان بن الحكم )، واستواؤه على العراق أي على كرسيّ ملكها، ولم يُرِد الشّاعر بذلك مجرّد الاستيلاء، بل استواء منه عليها، إذ لو كان كذلك لكان عبد الملك الذي هو الخليفة قد استوى أيضا على العراق، وعلى سائر مملكة الإسلام، ولكان عمر بن الخطّاب قد استوى على العراق وخراسان والشّام ومصر وسائر ما فتحه، ولكان رسول الله قد استوى على اليمن وغيرها ممّا فتحه، ومعلوم أنّه لم يوجد في كلامهم استعمال الاستواء في شيء من هذا، وإنما قيل فيمن استوى بنفسه على بلد فإنّه مستوٍ على سرير ملكه، كما يقال: جلس فلان على السّرير، وقعد على التّخت، ومنه قوله تعالى:{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدا} [يوسف: من الآية100] وقوله:{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23].
[انظر "شرح قصيدة ابن القيّم" (2/31)].
أمّا ثمرات هذه الأسماء المباركة فهي نفسها ثمرات الاسم الكريم ( الظّاهر ).